د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء التاسع

في خضم العملية القرآنية التشكيلية للعقلية القويمة وإصلاح التفكير الإنساني بالتصور الاعتقادي الصحيح عن الإنسان والكون والحياة، برز فيما يتعلق بالإنسان أن الله تعالى يريده أن يكون عارفًا بنفسه وعلى بينة وبصيرة، وهو ما تجلّى في ابتدائه بذلك نزولًا وترتيبًا.
أما فيما يتعلق بتصور الكون: فإن القرآن الكريم يمتلئ بالخطاب الكوني المتوجه إلى العقل بالدرجة الأولى منذ اللحظات الأولى من بداية نزوله كذلك. وهو ما يمكن تسميته بالتربية الكونية في القرآن للإنسان، تعريفًا له بالكون والآفاق، وعلاقاته وواجبه نحوه، التي تتمثل في ما هو مبثوث كما يصف د.النجار'من المطالب والإرشادات والتنبيهات من شأنها أن تعده نفسيا وعقليا وماديا لينشئ التوافق مع البيئة الكونية، فيحصل التفاعل الذي يثمر التحقق المطرد في مصالح الإنسان التي هي غاية الدين'.
ويأتي خطاب الله الكوني التربوي لأنه يريد لهذا الإنسان أن يكون راقيًا في معرفته بالكون، وفاعلًا ومصلحًا في الأرض، ولذلك يسعى القرآن في تربيته الكونية على ترقية الإنسان على المستويات التالية كما ذكر د.النجار:
. ترقيته باستخدام العنصر الكوني وسيلة تبلغه إلى الحقائق الغيبية،كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِی تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِمَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن مَّاۤءࣲ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةࣲ وَتَصۡرِیفِ ٱلرِّیَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَیۡنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾ [البقرة:١٦٤].
فهذه الآية تندرج في التربية العقلية الكونية حيث يخبر سبحانه 'أن في هذه المخلوقات العظيمة، آيات أي: أدلة على وحدانية الباري وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته… ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له، فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل، ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبُّره'.
ومثلها قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ﴾ [آل عمران: ١٨٩]، حيث يذكر عز وجل -كما يقول البقاعي- هذا الملك العظيم؛ ويختم بشمول القدرة؛ ليدل على ذلك بالتنبيه على التفكر فيه؛ الموجب للتوحيد؛ الذي هو المقصد الأعظم من هذه السورة؛ الداعي إلى الإيمان؛ الموجب للمفازة من العذاب؛ لأن المقصود الأعظم من إنزال القرآن تنوير القلوب بالمعرفة؛ وذلك لا يكون إلا بغاية التسليم؛ وذلك هو اتباع الملة الحنيفية'، يأتي قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾ [آل عمران:١٩٠]، حيث الشروع في بث أنوار المعرفة؛ بنصب دلائلها القريبة؛ وكشف أستارها العجيبة، وكذلك الزيادة في الحث على التفكر والتهييج إليه؛ والإلهاب من أجله؛ بقوله: ﴿لَـَٔایَـٰتࣲ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾؛ مقتصرًا هنا من آثار الخلق على السماوية؛ لأنها أقهر؛ وأبهر؛ والعجائب فيها أكثر؛ وانتقال القلب منها إلى عظمته - سبحانه وتعالى - وكبريائه أشد وأسرع..
وإذا، فهذه الآيات ومثيلاتها الكثيرة في القرآن إنما تساق في معرض ترقية عقل الإنسان وإصلاح تفكيره بالحقائق الايمانية الصحيحة.
. ترقيته باستعمال الصورة الكونية وسيلةً تحقق الخير الاجتماعي كما في قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِیتࣰا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلࣱ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَیۡنِ فَإِن لَّمۡ یُصِبۡهَا وَابِلࣱ فَطَلࣱّۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرٌ﴾ [البقرة ٢٦٥]، فهنا استعمال جلي لآيات كونية في موضوع اجتماعي خيِّرٍ متعلق بالوظيفة الاجتماعية للمال؛ إذ يشبه عز وجل نفقة أولئك ﴿كَمَثَلِ جَنَّةِۭ﴾ أي -كما يذكر السعدي-: كثيرة الأشجار غزيرة الظلال، من الاجتنان وهو الستر، لستر أشجارها ما فيها، وهذه الجنة﴿بِرَبۡوَةٍ﴾، أي: محل مرتفع ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره، فثماره أكثر الثمار وأحسنها، ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس، فـ﴿أَصَابَهَا﴾؛ أي: تلك الجنة التي بربوة ﴿وَابِلࣱ﴾، وهو المطر الغزير. ﴿فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَیۡنِ﴾؛ أي: تضاعفت ثمراتها لطيب أرضها، ووجود الأسباب الموجبة لذلك، وحصول الماء الكثير الذي ينميها ويكملها، ﴿فَإِن لَّمۡ یُصِبۡهَا وَابِلࣱ فَطَلࣱّ﴾؛ أي: مطر قليل يكفيها لطيب منبتها، فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة والقليلة كل على حسب حاله، وكل ينمَّى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها، والمنمي لها هو الذي أرحم بالإنسان من نفسه.
فلا يخفى ما في هذا التشبيه -من خلال ما تضمنه من تصوير الفاعلية الكونية- من ترغيب الإنسان والرقي به ليكون نافعًا خيرًا في مجتمعه.
. ترقية إرادته بدفعها إلى موقع الفعل المؤثر الذي يسخرها الطبيعة ويستثمرها لمصلحة الإنسان كما في قول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولࣰا فَٱمۡشُوا۟ فِی مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا۟ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَیۡهِ ٱلنُّشُورُ﴾ [الملك:١٥]؛ إذ يمنُّ على عباده أنه سخر لهم الأرض وذلَّلها لهم، بأن جعلها قارة ساكنة لا تضطرب، بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار، ومختلف صنوف الرزق، ليأمرهم بعد ذلك، ويحث إرادتهم، ويدفعهم للسير والسعي، والعمل والجد، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب؛ لتسخيرها وتذليلها. ففي هذا تنبيه إلى أنّ الإنسان مطلوب منه العمل مأمور بأن يمشي ويسعى في مناكب الأرض ابتغاء رزق الله وكسب المعاش، فـهو السبب الأول في جلب الثروات ونموها، وتحقيق الكفايات وتحسين الاحوال، وهو العنصر الأول في عمارة الأرض التي استخلفه الله فيها، وأمَره أن يعمرها: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِیهَا﴾ [هود:٦١].
المراجع:
مباحث في منهجية الفكر الإسلامي، عمر عبد المجيد النجار.
منهج تربوي فريد في القرآن.
تفسير البقاعي
تفسير السعدي.
تفسير ابن كثير.
الإسلام والتنمية الاجتماعية، محسن عبد الحميد.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
نبذة عن الكاتب

الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء التاسع
لعلّ الأوزاعي قد أخطأ
الطريق المأمول.. حتى لا نصير كالعجل المأكول!
التغطية مستمرة... لكن الأرواح غادرت
سر الثبات في الحياة وعند الممات