جواب العلم والدين.. لما تعارض عن يقين! الجزء الثاني

لقد أعطى الإسلامُ دينَ العقل والتفكير والبحث والبراهين مع ما فيه من وحي مُنزَّل على نبيّه الخاتم عليه الصلاة والسلام، أقول أنّه أعطى للعقل نصيبه ومكانته في الاستعمال بعيدًا عن الدخول في متاهات لا شأن له فيها ولا يورث من أقحمه فيها إلّا مزيدًا من الجهل بدل أن يكون سببًا لمزيد من العلم والمعرفة ولا سيّما إذا ما كان ثمَّة خلط بين دور الدين المستقل في الأمور الغيبية العقائدية التي يقف العلم التجريبي عاجزًا أمام سبر أغوارها ومعرفة كنهها والتي في مجملها تتناول ما وراء الكون وبدء الخلق والتي اختصر القرآن الجواب لمن سأل عنها ﴿۞ مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾[الكهف 51].
وبناء على هذا الثقل والوزن العظيم للعقل ومكانته السامية حتى قال فيه إمام البلغاء سيدنا علي كرّم الله وجهه: "اللهم من أعطيته العقل فماذا حرمته؟ ومن حرمته العقل فماذا أعطيته؟" فإنّ العقل وهو مناط التكليف، كان له دور عظيم في التوفيق ما بين القضايا الدينية والقضايا العلمية الخاصة بالكون حيث إنّ القرآن كتاب الله قد أعطى فيضًا من الآيات التي تزخر بالتصريح العلمي أو التلميح في ذلك، فأما ما هو مُصرَّح به فقد وجد الناس ومنذ نزول الآيات ما فيه دعوة للتأمّل في خلق الله وبديع صنعه كقوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾] الغاشية17]، وظاهر الآية قد يكون عاديًّا لأول وهلة ولكن مع تقدُّم العلم بدا أنّ تخصيص الإبل بالخلق دون غيرها كان له بُعْد علمي لا يصل إليه إلّا أولي العقول والألباب، وأمّا ما كان تلميحًا فكثير منه ممّا لا حكمة إلّا في موازاته حتى يأتي وقت التصريح به من مثل قوله تعالى: ﴿بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [القيامة 4]، حيث كشف العلم الحديث استحالة توحّد البصمات وإن الإبهام يختلف بين مليارات من البشر في الأرض. وهو ما أشار إلى قدره توحيده وتسويته وهو الخالق سبحانه وتعالى.
ولكن بدأ الخلط ما بين دور الدين ودور العلم في الأمور الغيبية البعيدة عن قدرات البشر حيث إن العقل محدود القدرة مهما بلغ ذروة قدرة صاحبه. وانقسم الناس في ذلك إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول أنكر دور الدين في الأمور العقلية وما يترتّب عليها من قضايا علمية مختلفة وعدَّ ذلك محنة للعقل إذا ما ارتبط بالإسلام وهو ما سار عليه من يسمَّوْن بالعقلانيين في التاريخ المعاصر وهم الذين أخضعوا الكثير من الأمور الدينية للتجارب العلمية المحضة فأدّى بهم الأمر إلى إنكار الكثير من الآيات الصريحة في أمور متعلقة بغيبيات وصرفها عن ظاهرها لأنها وحسب زعمهم تتعارض مع العلم كمثل من قال إن ما أرسله الله لهلاك أبرهة الحبشي وجنده لمّا أرادوا هدم الكعبة كان عبارة عن ميكروب أصاب القوم وقضى عليهم. وكأن لسان حالهم يقول إن الله وحاشا لله عاجز عن إهلاك من شاء بما يشاء من جنوده التي لا يعلمها إلّا هو.
والقسم الثاني كانوا من الذين قدَّموا العقل على النقل وأسرفوا في لَيِّ النصوص الشرعية وإخضاعها لما يوافق ظاهر العقول أو إنكارها إذا ما كانت عقولهم وعقول أمثالهم لا تستوعبها والتي نجد أثرها في عصرنا اليوم عند من ينكرون الكثير من الغيبيات كعذاب القبر مثلًا وأقل ما يقولونه لمن يعارضهم: افتحوا لنا القبور وأرونا من يعذب فيها. وأكثر ما يقولون إن وجدوا من يقيم الحجة عليهم بكثير من الآيات المستنبط منها دلائل على وجود مثل ذلك العذاب لأهل القبور أنه عذاب معنوي لا حسّي وأحلام مزعجة وكوابيس.
والقسم الثالث هم ممّن ورثوا عن الكثير من علماء المسلمين القدامى ليس ميراث الكتب التي تنهل من القرآن وعلومه ومن الحديث الشريف وفيوضات نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام وما أكثرها جميعًا، وإنما ذهبوا إلى تجديد دور العقل البيزنطي الموروث من الفلسفات الوثنية اليونانية والتي جعلت العقل إلهًا عند أصحابها وخاضت في كتب لا حصر لها ولا عدّ، ولا همّ لها إلّا البحث في الجوهر والعرض والصفات والأعراض وغيرها من علوم المنطق والجدل والتي أخضعوا فيها الأمور الخاصة بالإلهيات إلى متاهات العقل بلا حدود ولا قيود ولم يصلوا إلى ما يشفي العليل ولا ما يروي الغليل سوى أنهم جمعوا قال وقيل. ومن يرد شواهد في ذلك فليرجع إلى ما قاله صاحب كتاب مفاتيح الغيب في التفسير وهو الإمام فخر الرازي رحمه الله الذي جمع في تفسيره وكثير من كتبه الكثير من النظريات العقلية ودمجها في الدين لتخرج بثوب مرقّع يجمع الأصيل مع الهزيل وهو ما دفعه أخيرًا إلى الاعتراف بما ارتكبه من أخطاء عندما أعطى للعقل أكثر ممّا ينبغي وما كان ينبغي له الوقوف عليه والإقرار بالعجز والتسليم فقال مقالته الشعرية المعروفة:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا. وممّا ينقل عن هذا الإمام ذاته أنه كان يسير يومًا مع تلاميذه بأعدادهم الغفيرة. وكانت امرأة عجوز تراه معهم فسألت عنه فقيل لها أنه الإمام فخر الدين الرازي الذي عنده ألف دليل على وجود الله فقالت: "لو لم يكن عنده ألف شك لما كان عنده ألف دليل". ولمّا علم الإمام بما قالته عنه قال :"اللهم إيمان كإيمان العجائز".
ويمكن لنا أن نستنتج ممّا تقدّم قوله إن الدين لا يعارض العلم بل يستوعبه إذا ما كان علمًا نافعًا، ولكن العلم إذا ما تعارض مع الإيمان الغيبي وجب الوقوف عند حدود ما ينبغي الالتزام به بلا نقاش ولا جدال. وما يؤيّد قولنا ما قاله سيدنا علي رضي الله عنه: "لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان مسح باطن القدم أولى من مسح ظاهره". وإذا ما عجز العلم عن الإجابة عمّا يجهله كثير من الناس ممّا غاب علمهم عنه فليس ذلك يعني تحميل الدين عجز العاجزين فالعلم له حدوده والدين له قيوده. والأولى الأخذ بما ينفع المسلم في دينه مع ما ينفعه من العلم ولو كان ذلك بحرًا لا قرار له، وبذات الوقت الأحرى بمن كان له عقل يعي وبصيرة في الأمور كلّها أن لا يجعله العلم سببًا لنكران دينه والتهجّم عليه فيخسر ما لم ينفعه من العلم بأكثر ممّا خسره من الدين والإيمان. والله الهادي سواء السبيل والحمد لله ربّ العالمين.
يُتبع..
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
جواب العلم والدين.. لما تعارض عن يقين! الجزء الثاني
تغيّرات نوعية تستوجب مسارات استثنائية
العلمانيّة... الوجه الحقيقي
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الرابع
أدباء الدَّعوة في انتظار الـمِظلّة