د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الخامس

تقرَّر أنّ ممّا يسعى إليه القرآن الكريم ويريده للإنسان إصلاح تفكيره كجزء من إصلاحه الشامل والمتكامل فردًا وجماعةً، ولذا ألفيناه يتبع طريقةً قاصدةً متكاملة، نركّز عناصرها في عناوين كبرى.
أولًا: إعلاء شأن العقل
اعتنى القرآن بالعقل عناية فائقة، وأعلى من شأنه إعلاءً شديدًا لا يخفى، باعتباره المدخل الأول لإحداث التحوُّلات في المجتمع؛ "بما يزود به من معرفة، وبما يرسخ فيه من مبادئ ومفاهيم، وبما ينتج عن ذلك من اتجاهات وسلوك، فهو الذي يوجِّه النشاط والحركة الإنسانية، وهو الذي يبني ويهدم، وهو الذي يؤلِّف ويفرِّق، وهو الذي يبدع، أو يخمل ويكسل". من أجل ذلك، حرص على أن يكشف للإنسان قيمة ما يتميَّز به من نعمة التعقُّل، والتفكُّر، والإدراك، والفهم، والعلم ليبني لدية الثقة بعقله وبقدرته. وهو ما يعدُّ خطوة أولية مهمة في فهم منهج القرآن في إصلاح العقل، التي تعكس تصوره له، وتعبر في الوقت نفسه عن موقفه منه، موقف الاعتبار والإعلاء، الذي يبرز من خلال حضور العقل فيه بشكل قوي، وذلك على عدة مستويات:
١- من حيث الخطاب القرآني: الذي يتميز بالتوافق التام مع قوام الإنسان العقلي؛ فالقرآن كتاب عقلي بامتياز؛ إذ هو كما يصف العقاد "كتاب تبليغ وإقناع وتبيين، وقوام هذه الفضيلة فيه هذا التوافق التام بين أركانه وأحكامه، وبين عقائده وعباداته، وبين حجته ومقصده، فكل ركن من أركانه يتنزل فيه بأقداره، ويوافق في تفصيله سائر أركانه التي تتم به أو يتم بها على قدر مبين. ليس أتم ولا أعجب من التوافق بين تمييز الإنسان بالتكليف، وبين خطاب العقل في هذا الكتاب المبين، بكل وصف من أوصاف العقل، وكل وظيفة من وظائفه في الحياة الإنسانية". وفي موضع آخر يقول:"إن الكتاب الذي ميَّز الإنسان بخاصة التكليف، هو الكتاب الذي امتلأ بخطاب 'العقل' بكل ملكة من ملكاته، وكل وظيفة عرفها له العقلاء والمتعقلون، قبل أن يصبح 'درسًا' يتقصاه الدارسون كنهًا وعملًا وأثرًا في داخله وفيما خرج عنه، وفيما يصدر منه وما يؤول إليه".
٢- من حيث اللفظ: إذ يحضُر لفظ 'العقل' فعلًا لا مصدرًا ولا اسمًا، مثل: عقلوه، وتعقلون، ويعقلون، ونعقل، ويعقلها، ونفس الشيء بالنسبة للفظ 'فكر'، للدلالة -كما يذكر العمري- أن "الخطاب القرآني قد اختار العقل في حالة فعالة، وليس في حالة سكونية جامدة، العقل في حالة التفاعل مع الناس... وليس الانزواء في الأبراج العاجية". ولا يخفى ما في هذا الجانب من دلالة على عظيم شأن العقل، وإشارة إلى قدرته وأهميته العالية بالنسبة لرسالة الإنسان في الحياة. ويعزِّز ذلك حضوره بألفاظ متنوِّعة؛ مثل: التفكُّر والتذكُّر والتدبُّر والحكمة والنظر والعلم والأبصار والألباب والبصيرة والنهى…
٣- من حيث المعنى: فتأتي مادة العقل في معظمها مشيرةً إلى معنى "التمييز بين الحق والباطل، وضرورة إدراك الحق والباطل على حقيقتيهما، وذلك خلال التفكير في ملكوت السماء والأرض، ومخلوقات الله الأخرى.﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾ [البقرة:242].﴿وَالنُّجومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمرِهِ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلونَ﴾ [النحل:12]". بمعنى أن الله تعالى لما وهب للإنسان العقل، جعله له قوة متميزة "تعرفه بالحق والخير وتهديه إليهما، وبالباطل والشر وتبعده عنهما، فهو قوة كاشفة وموجهة في نفس الآن، قال تعالى:﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:73]، وقال:﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك:10]". ولذا نجد العقاد يعرفه بهذا المدلول بما يتضمنه من أهمية بقوله: "العقل وازع 'يعقل' صاحبه عما يأباه له التكليف. العقل فهم وفكر يتقلب في وجوه الأشياء وفي بواطن الأمور. العقل رشد يميز بين الهداية والضلال. العقل روية وتدبير. العقل بصيرة تنفذ وراء الأبصار. والعقل ذكرى تأخذ من الماضي للحاضر، وتجمع العبرة مما كان لما يكون، وتحفظ وتعي وتبدئ وتعيد".
وبالإضافة إلى كل ما سلف، نقف على مستويات أخرى محورية في القرآن تظهر تنويهه بملكة العقل وإعلاء شأنه:
١- أول فريضة في القرآن: وذلك في بداية طريق التغيير والإصلاح الاجتماعيين أولُ ما نزل: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق:1-٥]، حيث الأمر بالقراءة، الذي يعني الأمر بالعلم والمعرفة والتعقل والتفكير.
٢- بالعقل تميز الإنسان الخلق وفُضل؛ فبسببه أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم، فكان سر تفضيله وتكريمه، ومعيار استخلافه، كما نستوحي من المشهد: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [البقرة:30-33].
٣- وفي هذا السياق المتعلق باستخلاف الإنسان، يبرز العقل باعتباره القوة الإدراكية المعيارية فيه التي -كما يذكر النجار- "على أساسها حمل أمانة الخلافة، والتي على أساسها خوطب بالوحي ليتحمله فهمًا وتطبيقًا. وهذا المفهوم يتجه في التحديد وجهة المقابلة بين وسيلة إلهية للكشف عن الحقيقة هي الوحي، ووسيلة إنسانية هي العقل الذي يتسع بهذا المفهوم ليصبح مستجمعًا لكل قوى الإدراك والتمييز في الإنسان، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ [الإسراء:٣٦].
لقد جعل الله هذا العقل مناطًا للتكليف. وهذا يعني ابتداء أن منهج الخلافة بأسره متأسس على العقل الإنساني في تنزيله على الأرض، فهو وسيلة ذلك التنزيل، ولولاه ما كان وجد منهج للخلافة أصلًا. وهذا الوضع الذي تبوأه العقل في التنزيل الأرضي لمنهج الخلافة يجعل دوره عظيمًا في إنجاز ذلك التنزيل، لما يستلزم ذلك الإنجاز من التحرك بين ذلك المنهج في صورة الوحي الإلهي المتعالي، وبين الواقع المادي لحياة الإنسان في دائرة الكون حركة تجعل من ذلك الوحي الإلهي في صورته المجردة واقعًا حياتيًا نافذًا، وهو ما يقتضي استيعاب الوحي المجرد من جهة، وتكميل ما تركه للتفصيل بحسب المنقلبات المستمرة من جهة أخرى، والعمل على سوق هذا وذلك في سبيل التنفيذ العملي من جهة ثالثة".
٤- حفظه ضرورة من الضرورات: فنظرًا إلى المكانة المرموقة التي يتبوأها العقل، ودوره العظيم في تنفيذ منهج الله في الاستخلاف، كان حفظه من كليات الدين ومقاصده الكبرى؛ فـ"لا تستقيم حياة الناس، ولا يكون منهم عمران بدون ذلك. وبيِّنٌ تمامًا أن تمام العملية الفكرية هو المعني بالعقل الذي هو مناط التكليف".
ويتم مقصد حفظ العقل بجلب ما يصلحه وينميه ويحفزه للإثمار العمراني والإنجاز الحضاري، كما يتم بدفع كل خلل قد يفسده ويعطله، ذلك "لأن دخول الخلل على العقل يؤدي إلى فساد عظيم، من عدم انضباط التصرف، فدخول الخلل على عقل الفرد مفضٍ إلى فساد جزئي، ودخوله على عقول الجماعات وعموم الأمة أعظم". من أجل ذلك حـرمت كل أنواع المفســـدات المادية كالمسـكــرات والمخدرات، والمعنــوية، مما يطرأ على العقول من التصورات الهدامة، والمفاهيم والأفكار المنحرفة، وألوان البدع والخرافات.
وهكذا، فمن خلال ما تقدم، يمكن أن نرى بوضوح موقف القرآن من العقل من جهة علو شأنه وسمو منزلته إجمالًا. إلا أنه لم يتركه مطلقًا، بل نلفاه يحدد قدره، كما يقول تعالى: ﴿قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَیۡءࣲ قَدۡرࣰا﴾ [الطلاق:٣].
يتبع
المراجع:
* عبد الرحمن الطريري، العقل العربي وإعادة التشكيل، كتاب الأمة،ع 27، ص ٧٧، ٣٥.
* العقاد، الإنسان في القرآن، ص١٥، ١٦، ١٧.
* خيري العمري، البوصلة القرآنية، ط دار الفكر، دمشق، ٢٠١٣، ص١٣١.
* النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، ص 58، ٥٩.
* عبد الرحمن الطريري، العقل العربي وإعادة التشكيل، كتاب الأمة،ع 27، ص ٧٧، ٣٥.
* يراجع خلدون الأحدب، أثر علم أصول الحديث في تشكيل العقل المسلم، ص١.
* ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ط٢٠٠٦، ص٦٢، ٧٨.
* فاروق النبهان، قضايا معاصرة تأملات وآراء، ط منشورات عكاظ، ١٩٩٣، ص٤٥.
* ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص٤٧.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
نبذة عن الكاتب

الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الخامس
جواب العلم والدين.. لما تعارض عن يقين! الجزء الثاني
تغيّرات نوعية تستوجب مسارات استثنائية
العلمانيّة... الوجه الحقيقي
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الرابع