أدب الحوار والجوار.. بين لغة العقل وهشيم النار
يعيش العالم في معظم أرجائه اليوم في عزلة شبه تامة عن لغة الحوار بين أبناء البشرية، على اختلاف دينهم وعرقهم وفكرهم. وتنسحب هذه العزلة على المجتمعات الإسلامية والعربية، خصوصًا على بلدنا هنا، بشكل أخص. فما هي قيمة الحوار وأدب الجوار في نطاقه الإنساني أولًا، ومن ثم في نطاقه الديني والأخلاقي ثانيًا؟ وما نتيجة تحقيقه في حياتنا أو تفككه وانعدامه بناءً على الشواهد والحقائق التي نحن على مسمع ومشاهدة منها؟
إن الإسلام دين الله الحق قد وضع قواعد للحوار الإنساني، لأنه دين رب العالمين الشامل لكل المخلوقات، العاقل منها وغير العاقل. قال تعالى: {يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}.
فمبدأ التعارف الإنساني هو أول حلقة من حلقات الحوار بين الشعوب، التي كلها تعود إلى آدم، وآدم من تراب. وقد وضع الله تعالى قواعد هذا التعارف في مبدئه ومنتهاه.
فأما في مبدئه، فنجد تحقق أدوات الحوار المفضي إلى التعارف في قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها}. ولولا هذا التعلم، لما أمكن للناس أن يجري أي حوار بينهم ويتم التفاهم والتآلف. وأما في منتهاه، فنأخذه من الآية التي ذكرناها: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. فقيمة المرء عند الله بتقواه، لا بجماله ولا ماله ولا أي شيء سواه، ولا يعرف ذلك إلا بما ينطق بلسانه. وصدق من قال: "المرء بأصغريه: لسانه وقلبه."
وقال الإمام علي كرم الله وجهه: "المرء مخبوء تحت لسانه." فتحقيق الحوار بتلك القطعة من اللحم في داخل الفم يؤدي إلى تحقق كل الأغراض، سواء منها ما فيه هدم وفناء أو ما فيه تشييد وبناء. وقد جاء في كتاب الله الكريم ما فيه ترتيب وتنظيم لما ينطق به اللسان، ومسؤولية ذلك في نيل الحسنات أو الآثام. قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
وهذا يعني المراقبة والمحاسبة الذاتية في اختيار الألفاظ ووضعها في موضعها الصحيح، لأن أثر الكلام واحد من اثنين: إما لك وإما عليك في الميزان. ومن هنا، أمر الله عباده أن يكون كلامهم وحوارهم فيما بينهم محكومًا بالحسن منه والصالح. قال تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم}.
وإذا قال قائل: "فإن بادرني أحد بما هو أسوأ من حوار الكلام،" فنقول له: ليس عليك أن ترد السيئة بمثلها، مصداقًا لقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} وذلك يشمل القول والعمل معًا.
ولو أردنا أن ننقل ما قلناه إلى أرض الواقع، فإننا نجد العجب من فقدان لغة الحوار وما ينتج عنه من غياب أدب الجوار بعيدًا عن سيف العقل، ووقوعًا في هشيم النار. وبعد التقدم والعصرنة اللذين صبغا الحياة المدنية في الألفية الثانية، وتمثل ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي التي قربت المسافات إلى أقصاها، جعلت لغة الحوار أكثر شمولية وإحاطة بين شتى أطياف المجتمع، وكشفت الكثير من الأسرار والبواطن.
يمكن لنا أن نحصر ذلك في أربعة جوانب:
1. الجانب الديني: فتحت وسائل التواصل الاجتماعي باب الحوار على مصراعيه بين المسلمين بجميع طبقاتهم ومراتبهم الدينية. ولكن تحول هذا الحوار في أغلبه إلى لهيب من النار، تتقاذف فيه الألسن كل أنواع التشكيك والتعرض للأحكام الشرعية بالنفي والتلفيق، مما يوصل العوام من المسلمين إلى حيرة في أمر دينهم.
2. الجانب السياسي: يغلب على حوارهم ونقاشهم التناحر والتراشق بلا حدود، مما ينبغي تحققه بين من يُحكم البلاد ويُدير أمر العباد.
3. الجانب الأخلاقي: تقدمت برامج الحوار في وسائل التواصل الاجتماعي بالغواية والضلال، حتى أنها تناولت أمورًا ينبغي نبذها، مثل المساكنة قبل الزواج والمثلية وغيرها.
4. جانب التعليقات من العوام: حيث تجد المتساقطات من الألفاظ بأشدها، حتى يكاد النفس يضيق لذكرها، والقلب يدمي مما تحتويه من ذميم القول وقبيحه.
إن الحوار وأدب الجوار ينبغي أن يخضعا لسيف العقل بعيدًا عن كل إسفاف، حفاظًا على كرامة من علمه الرحمن القرآن ومن ثم علمه البيان. جعلنا الله ممن يحفظون كرامة الحوار في اللسان صونًا للحق في معترك الكلام.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"




أدب الحوار والجوار.. بين لغة العقل وهشيم النار
حين يكون الصدق قيمة عُليا
التربية على القيم الإسلامية في زمن الانفتاح
ابتسامة.. تبدِّدُ وَجَع الفَقد
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء العاشر