سر الثبات في الحياة وعند الممات

في اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان تتجلى الحقيقة أمام عينيه وهو يفارق دنياه التي عاشها بأفكاره وقناعاته، وتطفو عندها ما كان مستقرًا في قاع روحه وهو يسلم الروح إلى باريها... في لحظات إدراك الضعف والحاجة، تبرز أقوى الأفكار أو العادات التي كان متمسكًا بها في حياته والتي كانت له ديدنًا يداوم عليه، يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ويضل الله الظالمين.
وليس بعيدًا عنا ما شهدناه من أيام على مواقع التواصل الاجتماعي شهيد يتلو آية ثم يسلم الروح (رحمه الله تعالى).
هذا المشهد من المشاهد النادرة التي تأسر القلب وتحرّك الفكر، وتعيد الذاكرة إلى بداية انتشار الإسلام، فما أقرب التاريخ إلى الفكر إذ قرأناه حيًّا، وما أبعد الحاضر إذا غضضنا الطرف عنه منغمسين بملذات المعاش.
صوت نقي صاف يخترق ضوضاء الناس من حوله يخرج من حنجرة طالما اعتادت تلاوة القرآن فأبى الله له إلا خاتمة تسجّل له قبل رحيله مودعًا الدنيا التي أحياها بنور كتاب الله مقبلًا على الآخرة، يتلو آيات من القرآن الكريم، ليست مجرد تلاوة، بل روح تثبيت، وكأنه ما زال يعيش في قلب المعركة، يتلو قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 13].
هذا المشهد يعيدنا إلى معركة الفرقان، حيث ميّز الله المؤمن من الكافر، وأقام الدستور الذي من خلاله تحدّد عناصر النصر وعناصر الهزيمة، وتبيّن أن أسباب النصر ليست مادية فقط، بل هناك أسباب حقيقية تتجاوز ظاهر القوة المادية والإعداد المطلوب الذي أمرنا الله تعالى أن نعمل به فقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } [الأنفال: 60].
آية من آيات الله تقرأ منذ أكثر من 1400 سنة من سورة نزلت في أعظم حدث في تاريخ الإسلام، يوم التقى الجمعان: جمع الكفر وجمع الإيمان، فنزلت سورة الأنفال تخبرنا بهذه الواقعة التربوية للمسلمين إلى قيام الساعة.
ومع أن السورة في مجملها تتحدث عن واقعة بدر الكبرى فلماذا لم تحمل السورة اسم هذا الحدث العظيم؟ بل إن افتتاح السورة لم يبدأ بمدح المؤمنين على ما بذلوه من جهد ولا ما كابدوه من مشقات...
لقد افتتحت السورة بقوله تعالى: "يسألونك عن الأنفال"، من الذي يسأل عنها ولماذا يسألون؟! إنهم أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: " لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" (أخرجه البخاري)، فقد سألوا حكمًا شرعيًا أجاب الله تعالى عنه بقوله: "قل الأنفال لله وللرسول"، وتلتها الآيات التي تتضمن تربية لهم وللأمة من بعدهم.
ومن هنا نجد أن السورة سميت بالأنفال لأهمية الموضوع التربوي الذي ارتبط بالواقعة العظيمة التي ميزت فسطاط الإيمان عن فسطاط الكفر، وبيّنت نتيجة التسليم لأمر الله بتقواه مما يؤدي إلى الإصلاح النفسي والاجتماعي في البيئة المسلمة "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، فما يكون للمسلم تقوى ولا صلاح بغير طاعة الله ورسوله إذا ادعى الإيمان "وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين".
فما هي صفات المؤمنين الذين أوحى الله تعالى إلى الملائكة أن تثبتهم في المعركة؟
يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2- 4]
ففي هذه الآيات من سورة الأنفال التي ذكرت صفات المؤمنين الذين يثبتهم الله عند مواجهة العدو، سواء كان عدوًا ماديًا في ساحة القتال أو عدوًا نفسيًا يتمثل في فتنة الدنيا وشهواتها:
•خشية الله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}، هذا الوجل الذي يجعل المؤمن لا يخشى من أحد إلا الله ولا يكترث للماديات التي يحتاجها في الحياة، لا يرى لشيء في ما يحيط به قيمة إلا أن يكون سببًا في إقامة شرع الله وهي التي تدفع عنه فتن الدنيا إذا هاجت حوله، تحمل المؤمن للتمسك بمبادئه والعيش مع القرآن واقعًا لا شعورًا عابرًا.
•التوكل على الله: {وعلى ربهم يتوكلون}، التوكل على الله عبادة قلبية تنعكس على حياة المؤمن سلوكًا، فهو يجعل يقينه بأن الله مؤيده ومعه وناصره مع قلة الإمكانات وقلة العتاد ولكنه يتفاعل في حياته بحرية المؤمن الذي تخلّص من قيود عبودية الماديات، مع أخذه بالأسباب التي يسرها الله له.
•إقامة الصلاة: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، صلة دائمة بالله، وتعبير عملي عن الخضوع له سبحانه وتعالى، ترجمةً لخشيته وتوكله، فهي العبادة الظاهرة التي تمد هذا القلب بروحه وتمنحه القوة على مواجهة الحياة بكل ما فيها.
•الإنفاق في سبيل الله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} التحرر من التعلق بالدنيا، من خلال بذل المال والجهد والنفس في سبيل نصرة الحق، فالرزق ليس كسبًا يصنعه الإنسان بنفسه إنمّا هو من عند الله، وقد تأخر ذكره عن الصفات الثلاث كون النفس الإنسانية عن لم تخش الله وتتوكّل عليه وتتصل به، فلن تدرك أن هذا المال من عند الله فتنفقه بنفس زكية راضية إن كان الرزق مالًا، فكيف بمن أدرك مفهوم الرزق أشمل فما ترك شيئًا مما رزقه الله إياه إلا أنفق منه.
بهذه الصفات الأربع يتحقق التثبيت من الله تعالى {أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الذين آمنوا به واستسلموا له حبًّا وانقيادًا.
المؤمن على يقين أنه يحتاج إلى الثبات في الحالين (السلم والحرب)، فإن كان في أمن فنفسه وما بها من أمراض تحتاج إلى هذا العلاج، وسواء كان مجاهدًا في المعركة فنفسه بحاجة إلى التثبيت، فإن عاد حيًا أو ارتقى شهيدًا فإنه ينال من الله الدرجات العالية والمغفرة والرزق الكريم إذا مضى به السبيل في كسب هذه الصفات.
فإلى هذه الصفات التربوية وجّه الله النفوس المؤمنة به، بعدما كرهت فئة منهم لقاء العدو{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُون (6)} كما ذكر الله تعالى ذلك في المقطع الثاني من السورة (من الآية 5 إلى الآية 8) لتصفو من درن الدنيا ومادياتها لتكون هذه الآيات دروسًا نتعلمها ونقرؤها فنعيشها ونحياها حتى إذا أتت ساعة لقاء العدو نجد التأييد من الله كما أيد رسوله وأمده بنصره: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين (9)}، هنا يثبّت الله المؤمنين بمدد من الملائكة، فنشاهد مثل هذه النماذج الفريدة التي تعيش بالقرآن حياة وتعمل به منهجًا فتفارق الدنيا وهي تحيا بآيات الله.
آية من آيات الله، ردّدها في لحظاته الأخيرة، لم تكن إتقان حفظ بلغه القارئ - رحمه الله - فحسب، بل كانت شهادة حقّ أن من عمل بالقرآن صار القرآن له دستورًا وخالط روحه ومواقفه في الحياة، فنال من الله ما لا نعلم من رفعة المقام وعلو الدرجات.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
سر الثبات في الحياة وعند الممات
بذور الحقول المعجميّة في التّراث العربيّ
نهايات وعبر لأراذل بني البشر
مطبخ السياسة .. ومنهج القرآن في السياسة الشرعية.. الجزء الثاني
فنّ التربية الإسلامية