د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الحادي عشر
نصل إلى اللبنة الثانية في تشكيل القرآن للعقل القويم وإصلاح التفكير السليم، وذلك في إطار عمليته التزكوية، إنها:
-ب- التحول المعرفي: الذي هو عمل قرآني "في صمیم العقل من أجل تشكیله بالصیغة التي تمكنه من التعامل مع الكون والعالم والوجود، بالحجم نفسه، والطموح نفسه، الذي جاء الإسلام لكي یمنحهما الإنسان" [خليل، مدخل إلى الحضارة الإسلامية، ص ٢٢]. به افتتحت الرسالة القرآنية، مع أول ما نزل:﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ یَعْلَمْ﴾ (العلق:1-5)؛ حيث الدعوة إلى القراءة كمبتدإ للمعرفة، التي تتكرر مرتین في آیات ثلاث، إنها "القراءة باعتبارها السبیل إلى المعرفة، لكن لیس مطلق قراءة، إنما القراءة المسؤولة التي لا تتحرك باسم الذین یحولون المعرفة إلى انحراف بالإنسان عن الخط المستقیم، بل تتحرك باسم الله الذي ﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾، حتى حوله إلى خلق سوي عاقل منفتح على الحیاة كلها، باسم الرب الأكرم الذي یمنح عباده بكرمه كل خیر وبركة، ویقودهم إلى المعرفة بواسطة القلم الذي یكتب كل الوحي الذي ینزل من الله على رسله لیتعلموه ولیحفظوه، ولتحفظ المعرفة مكتوبة للأجيال" [فضل الله، من وحي القرآن،ج 24، ص٣٢٧].
ولم یقتصر هذا النداء إلى المعرفة في مرحلة افتتاح الرسالة، بل تواصل طوال مسيرتها، وسيتواصل ما بقيت وما طالت الحياة البشرية، ترسيخًا لهذا التوجه، وتمكينًا له، ليكون واقعًا معاشًا. هذا النداء مبثوث في القرآن تكاد لا تخلو منه صفحة، لكأن آياته منسوجة به؛ فــنجد عبارات: اقرأ، اعلم، اعقل، تفكر، تدبر، افقه، أبصر، انظر، تذكر، اعتبر.. إنه یتبع سیاسة الطرق المتواصل، والتكرار تأكيدا على أهمية المعرفة والعلم، مع الإشارة إلى أدواته ومقتضیاته. وها هو یشید بالعلماء، وينزلهم منزلةً مرموقة:﴿قُلْ هَلْ یَسْتَوِي الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لاَ یَعْلَمُونَ إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:٩)،﴿إِن َّمَا یَخْشَى اللهَ مِّنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر:٢٨، ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا یَذَّكَّرُ إِلاَّأُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران:٧).
بهذا وغيره ألح القرآن ويلح على العقل حتى لا يكون أمامه إلا أن يكون الإنسان متحققًا بهذا التوجه ومتلائمًا معه، "بل إن نسیج القرآن الكریم نفسه، ومعطیاته المعجزة، من بدئها حتى منتهاها، في مجال العقیدة، والتشریع، والسلوك، والحقائق 'العلمیة' تمثل نسقًا من المعطیات المعرفیة كانت كفیلةً بمجرد التعامل المخلص الذكي المتبصر معها أن تهز عقل الإنسان، وأن تفجر ینابیعه وطاقاته، وأن تخلق في تركیبه خاصیة التشوق المعرفي لكل ما یحیط به من مظاهر ووقائع وأشیاء"[خليل، مدخل إلى الحضارة الإسلامية، ص 25].
وعلیه، فإن القرآن هو كتاب علم ومعرفة كما هو كتاب عقیدة وإيمان وتزكية، يشجع الإنسان على التفكیر والتساؤل، ويشوقه إلى الاستزادة من العلوم، فليس فيه ما یشل حركته العقلية، بل يجعل دعوته إلى السير في الأرض والتأمل في الخلق من السبل إلى الإيمان:﴿إِنَّ فِی خَلقِ ٱلسَّمَـٰوَ تِ وَٱلأَرضِ وَٱختِلَـٰفِ ٱلَّیلِ وَٱلنَّهَارِ لَـَٔایَـٰت لِّأُولِی ٱلأَلبَـٰبِ* ٱلَّذِینَ یَذكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰما وَقُعُودا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِم وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلقِ ٱلسَّمَـٰوَ تِ وَٱلأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَـٰذَا بَـٰطِلا سُبحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ (آل عمران:١٩٠-١٩١)، ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ (الروم:٨)؛ بمعنى أنه "یطابق العلم، أو یولف العلوم الطبیعیة بهذا المعنى الذي تستقیم به العقیدة، ولا تتعرض للنقائض والأظانين، كلما تبدلت القواعد العلمیة، أو تتابعت الكشوف بجدید ینقض القدیم، أو یقین یبطل التخمین. وفضیلة الإسلام الكبرى أنه یفتح للمسلمین أبواب المعرفة، ويحثهم على ولوجها والتقدم فيها، وقبول كل مستحدث من العلوم على تقدم الزمن، وتجدد أدوات الكشف ووسائل التعلیم. ولیست فضیلته الكبرى أنه يقعدهم عـن الطلب، وينهاهم عن التوسع في البحث والنظر، لأنهم یعتقدون أنهم حاصلون على جمیع العلوم"[العقاد، الفلسفة القرآنية، ص 11- 12].
والمعرفة الحقيقية المطلوبة هي التي تتحول إلى فعل وأثر اجتماعي، الذي یغیر الإنسان ويسهم في إصلاحه وتزكيته وتطويره. وهو ما يقودنا إلى أن العلوم التي تحتاج إلى مزید اهتمام ودراسات متجددة، تلك المتعلقة بالأخلاق والمجتمع والنفس، التي "تعد الیوم أكثر ضرورة من العلوم المادیة. فهذه تعد خطرًا في مجتمع ما زال الناس يجهلون فیه حقیقة أنفسهم، ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده أشق كثيرًا من صنع محرك أو ترويض قرد على استخدام رباط عنق" [بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص 38].
وبالعودة إلى آیات البداية: 'اقرأ'؛ لنجدها تعرفنا على حقیقة التحول المعرفي الذي یريده القرآن للإنسان، وينمي عقله به؛ حيث یأمر الله تعالى بفعل قراءتین، اللتين لا تستقیم الحكمة إلا بهما [يراجع حاج حمد، جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، ص 229] :
- الأولى: قراءة الكتاب المسطور(القرآن)، المتعبد بتلاوته، الميسر لتدبره، اهتداءً به في المسالك الحياتية، فتنتج علوم التيسير نتيجة "الوعي ببنائية القرآن المجيد، وتضمنه لسنن قابلة للتعقل والإدراك، بمقتضى المواءمة التي جعلها الله بين الإنسان والقرآن"[العبادي، الوحي والإنسان نحو استئناف التعامل المنهاجي مع الوحي، ص 39].
- الثانیة: قراءة الكتاب المنظور (الكون)، المتعبد بالتفكر والسير فيه كشفًا لسننه وتسخيرًا لها، لتحقيق العمران الراشد، ومنها "النظر في الخلق، ومعرفة ما دونته البشریة من فهم له، وتجارب فیه بأقلامها. فهذه القراءة هي التي صاغ القرآن المجید بحسبها 'دلیل الخلق ودلیل الإبداع، والتكلیف بالنظر العقليّ في الوجود، والنظر في آثار الأمم السابقة، ومعرفة ما حدث لها'"[العلواني، الجمع بين القراءتين، ص١١]، فتنتج علوم التسخير نتيجة "الوعي ببنائية الكون، وخضوعه لسنن قابلة للتعقل والإدراك، بمقتضى المواءمة التي بين الكون والإنسان" [العبادي، الوحي والإنسان، ص 39].
ولا تتم قراءة دون الأخرى؛ فكلاهما دال على الآخر، ومرشد إلیه، ومفهم ما فيه؛ "فالوحي ینبه إلى ما في الكون من عناصر ومؤثرات، وإلى ترابط الأسباب بالمسببات، وبین فعل الغیب في الواقع، وكیف یمكن رصد آثار هذا الفعل، وأین یبدأ الدور الإنساني، وأین ينتهي أو یتوقف، والكون یساعد على فهم الوحي، والوعي على قضایاه، وحسن قراءته، وكیفیة استدعائه للحضور الدائم والشهود المستمر لترشید المسیرة الكونیة، وتحقیق أهداف وغایات الحق من الخلق" [العلواني، معالم في المنهج القرآني، ص٨٤]. وبتعبیر آخر، فإن "القرآن یقود إلى الكون یمارس دوره في الهداية فیه، ویوظفه بوجوه عدیدة، لتسخیر مكوناته، ولتوضیح قضایاه، وتأییدها، والكون أیضًا یقود إلى القرآن لیسقط أسئلته علیه، ویستعین به لإرشاد الإنسان إلى كیفیة التعامل معه، واستثمار تسخیره" [العلواني، الجمع بين القراءتين، ص 18].
وبهذا، فإن منهجية القرآن المعرفیة تجعل للعقل مصدرین للمعرفة:"الوحي والوجود، والعقل بينهما وسیلة وأداة معرفة واستنباط وحدس وإدراك، بل وتولید لأبعاد أخرى في الوقت ذاته" [العلواني، التوحيد والتزكية والعمران، ص 66]. وهذا الجمع بين القراءتين بما هو مسألة منهجية في المعرفة قائدٌ "إلى نتیجة حضاریة، فالذي یجمع بین القراءتین لا یستغني عن الله لأنه یدرك دومًا افتقاره له سبحانه وتعالى، فلا يستبد ولا یبتغي علوًا في الأرض ولا فسادًا ولا یطغى، ولا یلحد ولا یدمر الحیاة والأحیاء، ولا یعیث في الأرض فسادًا"[العلواني، الجمع بين القراءتين، ص ٣٥].
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"




الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الحادي عشر
عالم الجيولوجيا والداعية الإسلامي الكبير د. زغلول النجار رحلة الإيمان في معارج القرآن
أدب الحوار والجوار.. بين لغة العقل وهشيم النار
حين يكون الصدق قيمة عُليا
التربية على القيم الإسلامية في زمن الانفتاح