خبر غريب (2) (قصة قصيرة)
يبدو أن غريبًا لم يذق طعم الغربة طوال السنوات التي قضاها خارج حدود الوطن، إنه لم يعرف طعمها الحقيقي إلا حديثًا، عندما وجد نفسه سائرًا حائرًا، باحثًا عن مركز الأمير سعد.
يكاد لا يصدق ما يقرأ فوق تلك العمارة الشاهقة القديمة: "مركز الأمير سعد لرعاية المسنين"، كسا الوجوم والقلق السيد غريبًا، ورفض أن يعترفَ بأن هذا هو عنوان والده، فقال لنفسه: حصل خطأ أكيد، مستحيل، لا يمكن أن يكون والدي هنا، سأنصرف، لكن من حق قلبي علي أن أكلل قلقه بتاج الطمأنينة، فقرر أن يدخل ويسأل عن السيد درويش الأحمد.
قام الموظف من مقعده، وقال بانفعال: حرام عليكم أيها الناس، نحن نتصل بكم ليلاً ونهارًا؛ لتزوروا هذا المسكين، فتبخلون عليه بمجرد الزيارة! يا أخي زره واكسب رضاه، اطرق بيدك بابًا من أبواب الجنة، إن هذا الشيء والله ليفتت الكبد، شخص مثلك ما شاء الله طول وعرض وارتفاع وقمة (شياكة)، ويرمي والده في دار للمسنين!!
طال انتظار غريب لتوقف سيل اللكمات الكلامية، فقاطعه قائلاً: لكني أرجوك، قل لي: أين هو بالضبط وشكرًا؟
صعد السيد غريب في المصعد، وهو يحاول مسك رأسه؛ خشية أن يتهشم، ويلملم أفكاره قبل أن تنتحر.
هذا هو درويش الأحمد، الشيخ الحزين، الهزيل، الوحيد، الكسير، والذي طال هذيانه مناديًا: غريب، لحظات مرت كانت أكبر وأقسى وأعنف وأصدق من كل وصف.
ارتعد معظم من رأى الشيخ؛ خشية أن تستجيب السماء لعيني الشيخ المرفوعتين الجاحظتين الدامعتين المسددتين صوبها، كما أحسوا أن تمتمة شفاهه المرتجعة تشكو لبارئها، حاول غريب استدعاء كل مقومات الرجولة من صلابة، وجلد، وقدرة على التحمل، يتمنى لو يتقن التمثيل ولو للحظات؛ ليبدوَ أمام الجميع أنه يستطيع احتواء موقفه هذا، فاقترب من والده بهدوء وأمسك يده، وطبع عليها قبلة حارة، وقال مواسيًا:
لا يهم يا والدي ما حدث سابقًا، المهم أن أفوز برضاك القلبي، فأوفق لتصحيح الأخطاء، اندفع المتطوعون في الدار، فأخذوا يتساءلون ويخبرون، قال أحدهم:
تصور يا ولدي زوجته استولت على عمارته، فسأل غريب بدهشة:
وهل أنت واثق من هذا الخبر؟
فأجابه الرجل: اسمع يا ولدي، صلِّ على النبي، عمك الذي تراه أمامك مضى عليه سنوات طويلة وهو يعمل هنا بين المسنين، وكل واحد منهم يحدِّثني بقصته، واعلم يا ولدي أنه لم ولن يأت أحد إلى هذه الدار إلا وخلفه قصة أليمة!
فقاطعه غريب بتوتر: أرجوك، قل لي قصة الحاج أبي غريب بسرعة واختصار.
فأجابه الرجل: أولاً أود أن أثبت لك صدق كلامي، فأنت ولده غريب الذي يعمل في دول الخليج.
كانت هذه العبارة كافية لتثبيت جزء يسير من الثقة في كلام المتحدِّث، أكمل المتحدث:
سأروي لك ما ذكره والدك لي بعد أيام قليله من انضمامه لهذه الدار، فقد قال:
استمع إلى قصتي جيدًا، وأنا ما زلت بتمام الوعي؛ فقد تكون أحد الشهود يومًا، كان ولدي الوحيد غريب يُرسل لي كل ما يدخره؛ من أجل أن أُرَمِّم بيتنا القديم، وأوسعه، وأُجَدد أعمدته، ومن ثَم أبني فوقه عدة أدوار ليسكنها الولد ونستثمرها معًا يوم أن يلم شملنا، وتلتئم غربتنا، كانت الأرض الصغيرة والبيت القديم لي، وعندما أراد ولدي التطوير، طلب مني أن يبقى كل شيء بيدي؛ من أجل تسهيل المعاملات الجديدة، والفرار من قيود الضرائب.
مرت عليَّ سنوات، وأنا ألهث كالموظف الكادح؛ مما أذهب عافيتي، إذ كنت أبدأ الدوام الصباحي مع موظفي الدولة، أتابع معاملة تلو أخرى، ومعروضًا يتبعه آخر، فقد تشابكت القوانين، وتعقَّدت وعقدت معها الحياة، ناهيك عن ضرائب التأخير، وضرائب الجهل بالقانون، ثم الجري خلْف الذي يكدحون من أجل الشبع، والشبع فقط!
وفي ساعات المساء كنت أجري خلف الحرفيين والمهنيين، وبعدها أرتمي على فراشي رمية ميت، كانت فرحة أم غريب - رحمها الله - بأدنى تقدُّم تغدق عليَّ المزيد من الرغبة في العمل، وتنسيني أشد أنواع المتاعب، وكانت تجرني إلى عالمها الباسم البهيج، الآمل بالغد القريب، وعودة الغائب الحبيب، والتخطيط من أجل زواجه، ثم... توقف عن الحديث وقاوم زفرات حرَّى انفلتت من صدره، وقال: ماتت أم غريب - رحمها الله - وبدأت أخبار الحبيب الغائب بالانقطاع، كدت أجن، وأسير هائمًا على وجهي في الطرقات؛ الوحدة تعني بالنسبة لي الموت البطيء، فأجمع عقلاء القوم على أنه يجب عليَّ أن أتزوج؛ كي أنسى، أو قل: أتناسى.
تزوجت من أرملة، كرست نفسها لتربية وحيدها (أحمد)، حتى غدا شابًّا يحدثك عن الوطن وحقوق المطرود من أرضه، أما أم أحمد فقد بدتْ لي رقيقة طيبة، مفوهة، أنيقة، مهذبة الكلام، وكانت تنتزع حقها من بين أقسى الأنياب، كما كانت تتمتع بموفور الصحة والعافية.
في البدء وقفت بجواري وقفة رجل محنك، فأنقذت ما أهمل وترهل أثناء غيابي عن متابعة العمل والعمال، كانت تتابع المعاملات الرسمية بنفَس طويل، وصبر جميل، ثم تأتي لتتفحص إنجاز العمال اليومي بدقة، وبعد فترة قالت لي: لِمَ لا تخفف الأعباء عن كاهلنا بتوزيع المهمات؟ أنت تتابع العمال "الغشاشين"، وأنا أتابع المعاملات الرسمية، قلبت الأمر فوجدته معقولاً ومقبولاً، خاصة أن لها بعض المعارف والأقارب في الدوائر الرسمية.
وسارت الأمور بهناء وهدوء، حتى واجهتنا مشكلة "ملكية حدود الأرض"، التي أقمنا عليها البناء، فانبرت هي للدفاع عن هذه القضية بالتعاون مع معارفها وأقربائها، ووقفت القضية أمام منعطف خطير: إما أن أدفع مبلغًا من المال لا طاقة لي به، أو أن تسير المعاملات سير السهم في حال قراءة اسمها اللامع المعروف للكثير من المسؤولين.
فقالت لي يومها: الحل يسير، اكتُب لي تنازُلاً عن العقار، وسوف أرده لك سالمًا غانمًا بعد انتهاء هذه المعامَلات النكدة!
حقيقة، إنها امرأة ذكية، لها سطوة فكرية، وقدرة على الإقناع، أضف إلى أنها زوجتي التي تُبادلني الحب والثقة والاحترام، فوافقتُ على تسجيل كل شيء باسم الغالية الفاضلة أم أحمد، وقد سخَّر الله لي موظفًا صادقًا أمينًا، فقال لي عبارة تكتب بماء الذهب: "لا أنصحك يا عم بتقسيم مالك في حياتك، فأحكم الحاكمين كفاك شأن هذا"، فتكفَّلتْ هي بالرد عليه.
مرت شهور عدة، وأم أحمد تُتابع المعاملات الرسمية، وبعد إتمام الرتوش الجمالية والكمالية للدور الثالث، أقنعتني أم أحمد أن أحمد وعياله سوف يستأجرون هذا الدور "والغالي يرخص لك يا أبا غريب".
وبعد أن مرت سنة، فاتحتها بأمر رد العقار لصاحبه، فكانت ترد علي قائلة:
اصبر يا حاج، الصبر طيب، وصبر الحاج ثُم قال: طلبت من ولدها أحمد دفع إيجار البيت، فراوغني وأمهلني، فشكوتُ لها يومًا، فردتْ باسمه: إنه ولدي، وأنت تعرف ظروفه.
أجبتها بهدوء: مهما كانت الظروف، يجب أن يعود الحق لأصحابه، وأحمد سيد مَن يعرف هذا القانون.
فأجابت بهدوء: أنت تريد إحقاق الحق إذًا؟
أنت الذي يجب أن يدفع الأجرة لولدي أحمد منذ عدة شهور، وإلا لن تصبح عمارة ولدي مأوى للعجزة!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن