العاصفة
في لحظةٍ عاصفة مجنونة، قرَّر قراره، ووضع متاريس حول عاطفته، وحدَّث نفسه "أجل، سوف أتخلص من عذابك، من السنوات المريرة التي عشتُها معك، ثم أنسى صوتك المبحوح الذي تابع خطواتي، وأقلق غفواتي، وأرتاح من أعمالك المدمِّرة، سوف أنسلخ من ذاتي، وأرمي بك هناك"، كان يحدِّث نفسه وهو يقود سيارته وقد وصل أطراف مدينته.
ويسترق النظرات إليها وهي نائمة على الكرسي بجواره، ثم ينتابه شيءٌ من الضحكات الهستيرية، شاعرًا بنشوة النصر؛ لأنه زاد جرعة الحبوب المنومة، أحسَّ أن الظلام زحف مبكرًا؛ فالسماء ملبدة بالغيوم، والهواء بدأ يشتد، فقال لنفسه: "سأسرع قبل أن تشتد العاصفة، سأرمي بها بعيدًا ثم أهرب، سأختار لها موقعًا مناسبًا، وبعد العاصفة ستشرق حياتي مع بداية الربيع!".
توغلت سيارته في الطرق الترابية، بدتْ له شجرة كبيرة ملتفة الأغصان، فقال لنفسه: "هنا سأريح وأستريح"!
ثم حمل الصغيرة ووضعها بهدوء، نظر إليها نظرة الوداع، قاوم دموعَه، وركب سيارته قاصدًا العودة.
حاول أن يسرع بسيارته، لكن العاصفة هاجمتْه قبل أن يبتعد كثيرًا عن الصغيرة النائمة، ضغط على مقود سيارته كأنه بطل سباق، فانغرست عجلات سيارته في التراب.
لفَّ معطفه وأحكم غطاء رأسه، وخرج يحاول علاج الموقف، فتح باب السيارة، لفح وجهَه الهواءُ البارد، فارتعدت مفاصله، ثم سمع صوت ذئب، فتضعضعت قواه، وبكى، أغلق باب سيارته، ووضع يده على جبينه واسترسل في البكاء، وأخذ يتذكَّر كلام أمِّها - رحمها الله -:
إنها قدرنا يا أحمد؛ بل هو امتحان من الله لنا.
• أنا أدعو الله عليها ليل نهار! فتجيبه بصوتها الحنون:
• بل ادعُ الله لنا ولها يا أحمد.
تنهَّد بعمق وقال لنفسه: كم عانت أمها معها وصبرت، أما أنا فلم أحتملها سوى أشهر قليلة، وهأنا أهرب من ذاتي وأرمي بها.
أحس أنَّ نبع مشاعره تفجَّر فأغرق كيانه، وعلم أنه سلك سبيل الشقاء، وجَانَبَ درب السعادة، كيف يهرب من مشاعره الأبوية مدى الحياة؟ وهو الذي استسلم بعد دقائق معدودات؛ بل كيف يتركها للذئاب تنهشها، ويرمي نفسه بين رحى الألسن الحادة التي ستلاحقه، والنظرات المتسائلة التي ستتابعه؟ اشتدت العاصفة فنهض مسرعًا وخرج من سيارته باحثًا عنها كالمذعور، وأخذ يركض بين الشجر، رأى جميع الأشجار كبيرة، فأخذ يبحث تحت كل شجرة ويشهق لهفة عليها، ويدعو الله ألاَّ يكون قد اختطفها ذئب، أو سرقها أحد.
لم يكتشف أنه غبي بليد إلا في تلك اللحظات، ركض ولهث وتعب، ثم سمع صوتها تبكي بذعر بالغ.
اختلطت الأصواتُ لديه، صوتُ الريح المجنونة، مع الأمطار المنهمرة، ممزوجًا بصوت الذئاب المسعورة؛ لكن صوتها هي كان أخفتَ الأصواتِ في سمعه، وأشدَّها في قلبه.
تابع الركض، سارع الخطوات، خفق قلبه، قاوم مخاوفه، إنه يريد أن يصل إليها عبر كل المتاهات التي يراها أمامه، بدأت خطواته تسير في الاتجاه الصحيح، وضح صوتُها أكثر، اقترب منها، سبقتْ ذراعاه قدميه، عانقها بلهفة، أغرقها بقبلاته ودموعه، حدق في عينيها وقال: "عيناك الجميلتان قدري، وسوف أرضى به".
حملها، ومسح رأسها وقال لنفسه: رغم "بلاهتها" فهي ابنتي، حبيبتي، وهي هبة الرحمن لي. حملها على ظهره المنهك، وتذكَّر وجه أمها المضيء، وثغرها الباسم وهي تردِّد الآية الكريمة: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾ [سورة القصص: الآية 68].
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن