نسمة رحيمة
• لا يا عزيزي (وسيم)، لا تتراجع عن عمل خيرٍ بدأتَ به منذ أمَد.
• فأجابها والألم يعتصره: أنت تعلمين يا زوجتي العزيزة، أنني قدمت كل ما أستطيع، ووصلت إلى طريق مسدود.
• رحمة الله واسعة يا وسيم، والطرق إليها غير موصدة.
• وكأنك تحدثينني من عالم روحاني شفيف، (نسمة)، أرجوكِ اهبطي على الأرض، وفكِّري في قسوة الواقع وطغيان الحياة المادية.
• أنا واثقة تمامًا بما عند الله.
فقاطعها والحزن يفيض من عينيه: نسمة تخيلي مجرد تخيُّل أن تصبحي أنتِ وأولادك الخمسة على قارعة الطريق بعد تنفيذ اقتراحك.
لا يا وسيم، إن الذي كفاكَ ما كان بالأمس، سيكفيك ما سيكون غدًا.
أأفهم من ذلك أنك ترغبين في بَيْع هذا البيت، أعيدي تفكيركِ أرجوك.
لقد فكرت وقدرت، وأنت تعلم أن بيتي هذا كان حلمي القديم، وضعت بصماتي في كل زاوية من زواياه، إنه جزء مني، من ذاتي، إني أحب بيتي هذا، وأحب الحي الذي أنا فيه، وأكثر من ذلك أنِّي معجبة ومنسجمة ومتعاونة مع جميع الجارات، ربما سأبكي على فراق جاراتي ضعفَ بكائي على فراق بيتي الذي شهد أجمل أيام حياتنا.
قاطعها وسيم: إذًا من الأفضل ألاّ نبيعه.
لا يا وسيم، علينا أن نحتسبَ معاناتنا هذه عند أرحم الراحمين.
ضغط وسيم رأسه بين كفيه، وقال: أعرف يا نسمة أني أعيش أقسى أيام حياتي، دعيني أخرج الآن، فقد اقترب موعد الإفطار، ثم نادى على أولاده قائلاً: هيا يا أبنائي لنساعد الحاج بشير في تقديم مائدته الرمضانية.
أقبل الحاج بشير، والبِشْر يفيض على وجنتيه، لكن ابتسامته الوضَّاءة لم تستطع إخفاء علامات الإعياء التي بدتْ على محيَّاه الوقور.
لماذا تأخرت عليَّ يا ولدي، وتركتني نهبًا للأفكار والهواجس؟
ثم دقق النظر في وجه وسيم، وربت على كتفه، قائلاً: لِمَ تُخفي عني أحزانك يا ولدي، ألم تؤكِّد لي مرارًا وتكرارًا بأنِّي بمثابة والدك؟
وإذا بصوت المؤذِّن يرتفع، ويغرق الاثنان في صمْت هادئ، وتسبيحٍ خاشعٍ.
كلاهما كان يُفكر في معاناته ومعاناة صاحبه أثناء تناوُل وجبة الإفطار الأوليَّة الخفيفة، وقرر كل منهما أن يلتقيَ بصاحبه؛ ليخفِّفَ عنه، ويواسي نفسه بتحسُّس مشاكل الآخرين ومعاناتهم، ربما سافر ذِهْن الحاج بشير باحثًا عن والد وسيم؛ إذ قد تكون أخبار هذا الوالد وراء متاعب وسيم، إنه شابٌّ ملتزم جاد، ربما يكون في مأزقٍ.
وحدَّث وسيم نفسه قائلاً: نظرات الحاج بشير الحزينة الصامتة تُفَتِّت كبدي، كم أحترم هذا الرجل الملتزم الذي لم يفتنه المال! أرى آثار أياديه البيضاء في كل المواسم في رمضان المبارك، الانشغال بإعداد الموائد، وفي الشتاء تطرق حوانيته ليقدم معونة الشتاء، كما ينفق على بعض الحجاج والمعتمرين، كم أغبط هذا الرجل! بودي أن أعرف ما الذي يقلقه؟ ما الذي يرهقه؟ ما الذي يؤلمه؟ لأتشرَّف بكوني سنده بعد الله.
تُرى هل شعر بالوحدة بعد وفاة زوجته؟ إذ لم يُرزَق بذرية طوال حياته، وقد شارف على إتمام العقد الثامن من عمره، أزاح وسيم عن نفسه متاعب الحياة قليلاً، وأقبل صوب العم بشير يدعوه لتناول إفطار دسم في بيته؛ إذ قد يُخَفِّف عنه غربته ولو للحظات، فأجاب العم بشير الدعوة، ورآها فرصة للبحث عن هموم ولده وسيم.
حاول وسيم أن يتلمس مكنونات صدر العم بشير، لكن العم الوقور أبى إلا أن يستمع لأخبار ولده وسيم أولاً.
• الحمد لله يا عم، صحة الوالد في تحسن مستمر، وقد أخبرنا الأطباء أنه سيشفى - بإذن الله - إذا قاموا بإجراء عملية له في مفصل الحوض.
• وهل تمت العملية؟
• للأسف لم تتم بعد.
• لماذا تتأخر عن برّ والدك يا بني؟
• فأجابه وسيم والحزن يقطر من بين كلماته: إنني أفكر في بيع هذا البيت؛ لإتمام نفقات علاج الوالد.
• وما ستفعل الزوجة والأولاد؟
• أما زوجتي - بارك الله فيها - فهي التي دفعتْني لاتِّخاذ هذا القرار، وصمت وهو يذكر كلماتها.
• "أبوك يا وسيم لم يدخرْ وسعًا في تعليمك وتربيتك والإحسان إليك، أبوك يا وسيم مثال للتضحية والبر والرحمة والبركة، أبعد هذا تبخل عليه؟!
أبوك يا وسيم هو أخي، وسأجاهد من أجل إتمام علاجه - إن شاء الله".
• أطرق العم بشير رأسَه مفكرًا، ثم قال: زوجتك كنْز من كنوز الدنيا، استمع لنصائحها ولن تندم - إن شاء الله.
• ومد يده ليربت على كتف وسيم وهو يقول: افعل وتوكل على الله، بارك الله فيك يا بني.
• والله إنك فرَّجت همِّي بكلامك هذا.
• لم يفهم وسيم معنى العبارة الأخيرة، فتساءل في نفسه: أيُعقل أن يكون همي المركب هذا قد فرج هم العم، إني أسمع عجبًا! أكمل العم بشير حديثه قائلاً:
• لقد كنت في همٍّ كبير طوال حياتي، سؤال كان يُحيرني، ولم أجدْ له جوابًا إلا الآن، وسيم يا بني، أنت تعرف جيدًا أنني أنحدر من أصول غريبة عن هذه الديار، وليس لي هنا والد ولا ولد، ولا قريب، ولكن لي من الأحباب كثير - ولله الحمد - وقد عشتُ معظم عمري معرضًا عن الدنيا، وهي مقبلة عليّ، ولله الحمد والفضل والمنة، كانت تجارتي تربح أحيانًا أضعاف توقُّعاتي، الدنيا عجيبة يا ولدي، لا أذكر أنني مضيت في أمر إلا وكتب الله لي فيه رزقًا.
• وكان همي الكبير: كيف أجعل هذه النعمة لي لا عليّ؟ ولمن أتركها؟ بل مَن يستحقها؟ وكنتُ أعجب ببرِّك بأبيك، لكني اليوم فهمتُ سر إحسانك هذا، ومَن يدفعك إليه، اسمح لي يا ولدي أن أبارك لك بزوجتك، ويسعدني أن أوصي لها بثلث مالي.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن