الإسراف في الاستهلاكيات
أشتهي على المسلمين أن أجد فيهم حسًّا قويًّا لمشكلات البيئة، وتفاعلاً إيجابيًّا مع الحلول المطروحة، وعملاً بنَّاء، يَحُدُّ من التلوث، حتى يكون لنا فضل وسبق في حماية كوكبنا الذي استخلَفَنَا اللهُ فيه، من الأخطار التي تتهدده من سوء استخدامنا لموارده، فكوكبنا مهدَّد بسبب النفايات الكثيرة التي يعجز عن التخلص منها أو تحليلها - كالزجاج والبلاستيك وغيرهما -والتي ما تَسَبَّبَ في وجودها أصلاً إلا استهتارُنا بالتعامل مع الأشياء، وجهلُنا للقواعد التي ينبغي اتِّباعها في استهلاك المصنوعات، وعدم تقديرنا لعواقب الأمور ولقيمة المواد.
والتحذير يشمل جُلَّ ما نستعمله ونُبِيدُه في حياتنا اليومية، فهو أكبر من أن يُحصَر أو يُعدَّد، وهذا النوع من الإسراف يتضمن الأشياء التي نراها حقيرة وضيعة لا قيمة لها، وهي كثيرة جدًا؛ كالأقلام، وورق الكتابة، والمناديل، والأكياس، والصحون والملاعق والأكواب البلاستيكية التي تُسْتَعْمَل لمرة واحدة، والمنتجات الخفيفة؛ كالصابون والليف، وغيرها، والتي من الممكن أن نَحْصُرها تحت عنوان واحد هو "السرف في الاستهلاكيات"، وبيان ذلك في هذه الأمثلة:
• في المخازن الكبرى (السوبر ماركتات) يقوم موظَّفُو الخدمة بتعبئة الحاجيات والأغراض في الأكياس، فيضعون كل قطعة في كيس كبير وحدها، فعلبة الحليب الصغيرة في كيس وحدها، والسمن في كيس، وحتى كيس الرز (المجهَّز بحامل) في كيس! وهذا إسراف في استهلاك الأكياس! ولا أدري لماذا لا يضعون مجموعة من الأشياء في كيس واحد، فإن امتلأ أو ثقل وزنه تحولوا إلى غيره.
فإذا وصل الفرد إلى بيته استخرج مشترياته، ثم رمى تلك الأكياس باستهتار في سلة المهملات، بدل أن يستفيد منها في تجميع القمامة، أو في أي أمر آخر.
• ويتناول الناس المناديل من العُلَب بطريقة تثير الأعصاب؛ فهم يتناولون المنديل إثر الآخر، دون أن تكون هناك حاجة مُلِحَّة لاستخدامه، ثم يرمونه باستهتار وهو بحالة جيدة ونظيف وقابل للاستعمال، ويتناولون غيره!؟ وقد يتناولون أربعة مناديل في وقت واحد ليمسحوا طرف إصبعهم!
• ويسرف الناس في الرحلات الخَلَوية باستعمال الأكواب والصحون البلاستيكية، فيستهلك الفرد الواحد عدة أطباق، ومجموعة من الأكواب واحدًا للشاي، وآخر للقهوة، وثالثًا للعصير، ورابعًا للماء، وهكذا. ويتعاونون كلهم على هذا السلوك، ولا يَنْهى أحدهم عن هذا الخُلُق، ولا يجد فيه ضيرًا أو سوءًا! ولعلهم لا يعلمون أن إنتاج هذه المواد البلاستيكية يتسبب في توليد العديد من المرَكَّبات العضوية الضارة، التي تُلَوِّث البيئة وتُهَدِّد صحة الإنسان.
• وتبالغ بعض الأمهات في حماية أولادها، فتُغَيِّر الحفاظات، وهي ما تزال جافة، وهذا إسراف! فالحفاظات قد صُنِعَت بحيث تتحمل كَمَّيِّة معينة من السوائل، وصُمِّمَت طبقاتها بحيث تمنع البلل من الوصول إلى جسم الطفل، ولكن بعض النساء تُسْرِف في الْحَيطة والوسوسة، فتحصر الخير في راحة ابنها وجفافه وهو فرد واحد، وتتجاهل أنها وبإساءتها لبيئتها تضُرُّ ملايين الأشخاص، بمن فيهم نفسها وابنها!
• والمعلمون في المدارس يطلبون في بداية العام الدفاتر ذات المائة ورقة، فلا يستعمل الأولاد إلا ثلثها أو نصفها في الفصل الأول، وتبقى بقية الأوراق فارغة، فيطلب الأستاذ دفترًا جديدًا بمائة ورقة للفصل الثاني، ويصر على طلبه! فإن عاتبناه سَخِط، وإن تَمَرَّدْنا عليه غَضِب، وإن حاولنا إقناعه ضحك، وظن أننا من بخلاء القرن العشرين الذين كتب الجاحظ عن أجدادهم كتابه ((البخلاء))، ثم لا نستفيد بعد هذا كله شيئًا، فكل عام تتكرر الحكاية، ولا أدري كيف يصمم المعلم على رأيه، وقد درَّس المادة لعدة سنوات، وأدرك أنه يكابر ويبالغ ويغالط نفسه، وأن مادته لا تحتاج إلا لدفتر سعته نصف ما يطلبه من الصفحات.
وقد يكون الورق رخيصًا، ولكنَّا هنا نبحث الإسراف كمبدأ، ومن فرَّط في القليل تطاول إلى الكثير، وكان البَطَر طريقة له لا يعرف غيرها، كما أن هذا السرف الذي يبدو بسيطًا خفيفًا، له خلفيات مكلِّفة؛ منها أنَّ صُنْع الورق يحتاج إلى أطنان من الماء، والماء أضحى اليوم سلعةً قيِّمةً تجدر المحافظة بشدة عليها، ثم إن هذا السرف له تبعات جليلة؛ فالإسراف في الورق يضاعف من تلوث الأرض بنفاياته، ونفاياته تُكَلِّف مالاً للتخلص منها، وهي ترهق البشر بنقلها وحرقها.
• ويسرف الناس في استهلاك أدوات التنظيف؛ كالصابون مثلاً، فَهُم يتركونه قريبًا من الماء فيذوب، ثم يرمونه بعد أن يفقد نصف حجمه، وينسون أنهم في الطائرات يُكْرِمون الركاب عندما يضعون لهم في الحمام صابونة، لو وضعوا عشرًا منها فوق بعضٍ لما بلغت حجم تلك التي استهانوا بها فرموها.
وبعض ربات البيوت يُسْرِفْن في استهلاك مساحيق الغسيل، فيضعن لغسالات الملابس والصحون كمية أكبر من المطلوب، وهذا خطأ، وقد حذَّرَني من الوقوع فيه مُصْلِح هذه الآلات نفسه، فقال: إن الإسراف في استعمال المساحيق قد يؤدي إلى فساد الآلة الكهربائية؛ لأن الرغوة الناتجة عن ذلك تتسلل إلى المحرك، فتتسبَّبُ في تآكُلِ أجزائه ثم تَلَفِهِ، ونبهني إلى أن الزيادة لا تفيد شيئًا في جودة التنظيف؛ لأن الآلة مُعَدَّة لأخذ كمية محددة، فما زاد عنها طرحته كما هو مع مياه الصرف خارجًا.
والإسراف في استعمال مواد التنظيف يقابله سرعة نفادها، مما يستوجب دفع المزيد من المال لتعويض الفاقد، وهذا إسراف على إسراف! وكثرة الغسيل والتنظيف دون حاجة حقيقية فيها نوع آخر من السرف، فتعريض الملابس بكثرة للمواد الكيماوية يؤذيها ويسارع في بلاها، فيضطر صاحبها إلى شراء غيرها!
والإسراف في استخدام المساحيق له آثار جانبية ضارة؛ فهو يُوجِد عِبئًا على التصريف، ويؤدي إلى زيادة تلوث البيئة، خاصة وأن المدن تعاني اليوم من مشكلة المجاري، وإلى أين تذهب بها حتى تتخلص من شرورها، وكلما ازدادت كمية مياه الصرف كبرت المشكلة وتفاقمت، وقد أعجبني جدًّا في أحد الفنادق في بلد أجنبي أن الإدارة علَّقَت ورقة على باب كل غرفة قالت فيها: "نعدكم بأن نضع لكم فراشًا نظيفًا يوم تَحلُّون علينا ضيوفًا لكننا نعتذر منكم عن تغييره مهما طال مكوثكم، وما ذلك إلا مساهمة منا في حماية البيئة، فتقبلوا منا واعذرونا"!
• وبالجملة فإن كل العبوات الاستهلاكية يفنيها مستخدموها بسرعة، مثل المراهم، وكريمات البشرة والشعر، والعطور...، وأنا أعرف رجلاً يستهلك في كل مرة ربع علبة مبيد الحشرات ليقتل صرصورًا واحدًا صغيرًا من تلك التي تعيش في الخشب.
ورمْيُ بقايا هذه المواد الاستهلاكية أو عبواتها في الطرقات وفي المتنَزَّهات وغيره، هو الحلقة الأخيرة في مسلسل السرف الشنيع هذا، وإن الصحون البلاستيكية والمخلفات الأخرى التي يستهين بعض الناس برميها هنا وهناك، كافية بعد تجمعها وتحللها لقتل سمكة أو عصفور، أو تلويث مجرى نهر أو بحيرة، وقد يتم بسببها قتل نبتة، أو عرقلة نموها؛ فهذه الكيميائيات تذوب في مياه الأمطار أثناء سقوطها مُكَوِّنة الأمطار الحمضية، وهذه الأمطار بدورها تقوم بإزالة المواد المغذية في التربة، وتتلف نمو الأشجار، وتؤدي إلى التسمم أو إلى حدوث الأمراض المختلفة.
وما يذهب منها للماء يتسبب في أضرار جسيمة؛ فتلَوِّثُ الأقراص البلاستيكية الصغيرة مياهَ المحيط؛ لأنها تطفو على السطح، فتُغَيِّر في الظروف البيئية لحياة الكائنات المجهرية التي تعيش على سطحه، والبحر بسبب حجمه الضخم يستوعب بعض أنواع الملوثات بكميات معينة، ولكن معظم الناس يستمرون في إلقاء النفايات والفضلات والقمامة، ويساهم الصبية الصغار بهذا النشاط، فيلقون عن عمد المخلفات في البحر، كالأكياس والعلب، وهذه المواد لا تتفتت بسهولة، فتأكل الطيور البحرية والسلاحف والفقمات والحيتان وبعض الحيوانات الأخرى منها، مما يتسبب في موتها نتيجةً لانسداد جهازها الهضمي.
وبعدُ، فإن هذا النوع من الإسراف أتانا من الحضارة الغربية، التي لم تكتف فقط بإفساد فكرنا وعقيدتنا، بل أشاعت تلك الثقافة بيننا "كثرة الاستهلاك"، لتدمير الموارد بدلاً من المحافظة عليها، والحجة هي السعي إلى المزيد من السعادة، ولكن الحقيقة أن ذلك يتم لتزداد أرباح شركاتهم ولتتنامى استثمارتهم، وليتخففوا من الكساد السائد عندهم.
وقد انساق المسلمون مع هذه الصناعات الجديدة؛ لأنها من المباحات، فلما بالغوا في استهلاكها وتجاوزا وتعَدَّوْا، وأسرفوا في إهدارها مستخِفِّين بقيمتها، واستكثروا من غير حاجة، واستهتروا من غير وجه حَقٍّ، عاقبنا الله على مخالفة أمره (أي الإسراف في تعاطيها)، فتلَوَّث ماؤنا وهواؤنا، وتدهورت حالتنا الصحية.
فلا تطيعوا أمر هؤلاء المسرفين، ولا تُسْرِفوا، فإن الله لا يحب المسرفين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن