نداء إلى الآباء والأمهات
يسأل كثيرٌ من الآباء والأمهات عن واجباتهم تُجاه أبنائهم، واستجابةًً لهذا السؤال نضع بين أيديهم هذه الطاقة من التوجيهات التي نرجو الله أن تكون نافعة، فنقول:
1- اعملوا على إصلاح أنفسِكم، وصلاح حالكم مع مولاكم، واعلموا أنَّ لصلاحكم أثراً في صلاح أبنائكم، ولا يضيعُ عند الله مثقال ذرة. وإذا رأى الأبناءُ صلاحكم تعلموا منه، وانطبع في أذهانهم، وتمثلوه في حياتهم أيضاً. والصلاحُ يبدأ بتوبةٍ نصوح، واستقامة على الطريق، وتجنب الأخطاء والخطايا قدر الإمكان.
2- استحضروا حقوقَ أبنائكم عليكم دائماً، فإذا رأيتم، أو سمعتم خيراً، حاولوا نقله إليهم، وإِطْلاعهم عليه، واحرصوا على أن يتعلموه ويستوعبوه، ولا تستقلوا الخيرَ مهما كان قليلاً أو صغيراً، ففي الخير بركةٌ تنمِّيه، وفي القيام به وتطبيقه بركاتٌ ترعاه وتجلِّيه. ورُبَّ فائدةٍ لا يُلقى لها بال، نقلها الآباءُ إلى أبنائهم في ساعةٍ من نهار أو ليل، كان لها في مستقبل أيامهم أثرٌ كبير، ونفعٌ خطير، وكانت سبباً في حصول مَغْنم، أو دفع مَغْرم.
3- ادعوا لأبنائكم دائماً، أنْ يكرمهم الله بعلمٍ نافع، وعملٍ صالح، وحياة سعيدة، وصحة دائمة، وأن يرضى عنهم في الدارين. فإنَّ دعاءكم لهم ذخيرة لا تنفد، وعون لهم لا يُحد، يرون أثرَه في أوقات الشدة واللين، ويتلمسون بركته في سائر أحوالهم وأطوارهم. إنَّ الدعاء واللياذَ بالله واستمطار رحمته وكرمه من أعظم ما يقدمه الآباء لأبنائهم، فلا تغفلوا عن ذلك، ولاسيما أوقات الإجابة، وساعات الإنابة.
4- اعرضوا أطفالكم على مَنْ تتوسمون فيه الصلاح والعلاقة الوثقى بالله سبحانه، احملوهم إليهم، واطلبوا لهم منهم الدعاء، واكتبوا هذا في يومياتكم أو مذكِّراتكم، لتنشأ بين أطفالكم وبين هؤلاء صلةٌ قلبية، وصلةٌ حقيقية، إذا امتدت الأعمارُ بهم جميعاً.
5- احرصوا على أنْ تطعموهم الحلالَ الخالص، فإنهم أمانة في أعناقكم، وقد وثقوا بكم واستسلموا لما تأتونهم به، وكلُنا يُدرك ما للتغذية بالحلال من آثار على الإنسان في عقله وقلبه وجسده، فلننظر في أموالنا، ولنسعَ إلى أن تكون حلالاً، أينما كنا وكانت أعمالُنا، إنَّ مما يجب أن يشغل المسلمَ دائماً تحريه الشديدُ في كسبه، والنظرُ الفاحص في كل ما يدخل (جيبه) أو جوفه.
6- انصحوا أبناءكم بطلب العلم ووجهوهم إليه، وكونوا وراءهم، ولا تسمحوا لهم بالإعراض عنه، والتفريطِ به، فحياةٌ بلا علم لا خير فيها، والأبناءُ في طفولتهم ونشأتهم قد لا يدركون قيمةَ العلم، ولا يعرفون فضله، ولا يحسون بمخاطر الجهل عليهم وعلى مجتمعاتهم، فمن هنا كان على الآباء القيامُ بهذا الواجب قياماً تاماً، متنوعَ الأساليب، متعددَ المسالك، ومن المهم أن لا تعروهم الغفلة، ولا ينال منهم اليأس، وأن لا يتهاونوا في هذا الجانب أبداً.
7- احملوا أولادكم إلى المجالس العلمية، والمحافل الثقافية، وأطلعوهم على هذه الأجواء، وأشركوهم بها، مهما كانتْ أعمارُهم، وليكن هذا في بيئاتكم، أو بيئاتٍ تسافرون إليها، وإذا كان الأولادُ صغاراً لا يدركون فاكتبوا لهم في أوراقٍ تحفظونها لهم أنهم حضروا محاضرةً للعالم الفلاني، أو أمسيةً للأديب الفلاني، وجرى كذا وكذا، وإذا كانوا مدركين فأكدوا لهم أهميةَ هذا بالحديث عنه دائماً، واربطوهم بالعلم والأدب من خلال ربطهم بالعلماء - في شتى تخصصاتهم - والأدباء - في مختلف مجالاتهم -. ومن الجميل جداً إحياءُ سُنَّة العلماء في إسماع أطفالكم الحديث النبوي، وتحصيلُ الإجازاتِ لهم من أهله وأربابه.
8- إذا كنتم من أهل العلم، أو قادرين على الإفادة - مهما كانت - فباشروا تعليمَ أبنائكم بأنفسكم، أعطوهم ما لديكم، وامنحوهم ما عندكم، واجلسوا معهم، وساعدوهم في دراستهم، ودارسوهم، وتعرفوا إلى مستواهم ودرجة ذكائهم، وما لديهم من مواهب وقدرات، وما يستهويهم من العلوم والآداب والفنون، وإذا اكتشفتم فيهم شيئاً من هذه المواهب والقدرات فاعملوا على تنميتها ورعايتها، واحذروا أنْ تضيعَ هذه الملكات، وتخبو تلك الوقدات.
9- عظِّموا شأنَ العلم والعمل به في نفوس أولادكم، وعظِّموا مَنْ يحمل هذا العلم وينفعُ به الناس،وعظِّموا حرماتِ الله في أقوالكم وأفعالكم، فإن لذلك أثراً كبيراً لديهم. ولا تسمحوا لأحدٍ أن يهوِّن من شأن العلم وتحصيله والسعي إليه بحجة عدم جدواه دنيوياً، وقلةِ عائدته مالياً، فإنَّ هذا وهمٌ كاذب، وتوجيهٌ مغلوط، ونحن - المسلمين - لا نعمل للدنيا فقط، ولا ننظر إلى المال وحده. إنَّ العلم - في سائر تخصصاته - وسامُ شرفٍ رفيع، وهو طريق إلى الله تعالى، وإلى بناء الإنسان، ورفعة الأوطان. وكم من إنسانٍ دَرَسَ فقيراً ثم انهالتْ عليه الدنيا من كل جانب!
10- أنفقوا على أبنائكم ليدرسوا ويتعلَّموا، واعلموا أنَّ من أفضل النفقات ما كان في هذا السبيل، وأنَّ أعظمَ استثمار هو الاستثمار في العلم والتعلم والتعليم، فلا تترددوا في اختيار أفضل المدارس والجامعات لهم، ولا تحملنكم قلةُ ذاتِ اليد على التقصير أو القصور في ذلك، فإن عاقبة التقصير أو القصور في ذلك سيئةٌ على المستوى الشخصي والأسري والمجتمعي. إنَّ الأمةَ مطالبةٌ - من خلال مكوناتها وهي الأُسَرُ المسلمة - أن تولي هذا الجانب أعظمَ اهتمامها، وأفضلَ وسائلها، وأجملَ أفكارها، وأعظمَ جهودها، فهو السبيلُ الوحيدُ الذي ينتشلها من وهدتها، وينقذها من تخلفها.
11- افتحوا عيونَكم على أبنائكم، وتابعوا أمورَهم، وافهموا أنفسهم، واعرفوا أفكارهم، وتلمَّسوا ما يشغلهم، وراقبوهم مراقبةَ المحبِّ الحريص الشفاف، لا مراقبةَ المبغض الشاكِّ الثقيل، ولا تشعروهم بعبء متابعتكم لهم، وانصحوهم ووصُّوهم، وأنيروا لهم الطريقَ بكلماتكم وتوجيهاتكم، وأَوصلوا إليهم ما يعصمُ عقولهم من الانحراف، وقلوبَهم من التشتت، ونفوسَهم من الحيرة، وأشعروهم أنكم سندٌ لهم، لا سد أمامهم.
12- علِّموا أولادكم الآدابَ الحسنة، وفي ذروتها أدبُ الكلام، درِّبوهم كيف يتكلمون، وماذا يقولون، وبينوا لهم ضرورةَ مراعاة المقام، ومعرفة المخاطب، والتوقي في الكلمة، والورع ِفي الحديث، والحيطة ِفي إطلاق الأحكام، والحذرِ من مغبَّة الكلام، وراجعوهم في أقوالهم، وحاسبوهم إذا فرَّطوا بهذا الأدب، وازرعوا في نفوسهم أننا يجب أن نكون أمة َأفعال محسوبة، لا أقوال فارغة مهدورة، وذكِّروهم بأثر اللسان على الإنسان في دنياه وآخرته، وعرفوهم خطرَ هذا العضو ِالصغير في حجمه، الكبير في أثره.
13- كوِّنوا لهم شخصيةً اجتماعية، حين ولادتهم، ثم في سائر مراحل حياتهم، ولاسيما مراحل النجاح في دراسةٍ أو عملٍ أو كليهما، وهذا التكوينُ يبدأ بالعقيقة، ثم بنحر ما يُنْحَرُ وجمعِ الناس وإطعامهم حين تحقيق إنجاز كحفظ القرآن مثلاً، والنجاحِ من مرحلةٍ دراسية إلى أخرى، ويتأكد هذا إذا كان نجاحاً متميزاً. إنَّ الاهتمام بنجاح الأبناء وتميزهم من أفضل الوسائل لإدامة هذا النجاح والتميز، وزيادته وتطويره، وهو من أفضل الوسائل كذلك لبناء وجودهم الاجتماعي، ودخولهم في المجتمع دخولاً سليماً مؤثراً فاعلاً.
14- علِّقوا أبناءكم بالخالق الرازق العظيم، واربطوا قلوبهم به، وقفوهم على بابه، وعظموه في نفوسهم، ولا تدعوا فرصة - ولو على مائدة طعام، أو في جلسةِ سمر، أو في الطريق إلى المسجد، أو غير ذلك - دون أن تغتنموها بالحديث عنه - سبحانه -، وذكر نعمه، وتواترِ إفضاله، وواسع كرمه وحقوقه على عبيده، وأمره ونهيه، وحكمه وحكمته. إنَّ ارتباط القلوب بالله عز وجل يعصمها من الزلل والخلل، ويمنحها طاقةً لا تُحَدُّ على العمل النافع في الميادين كلها، ويخلصها من شوائب الدنيا، ويطلقها في عالم الصفاء والطهر والنقاء. وستكون قرةُ أعينكم إذا رأيتم أبناءكم صالحين، لهم بالله علاقة وطيدة، ولهم بدينهم عروة وثقى.
15- أعينوا أبناءكم على ما يسلكون من سبل الخير، وشجِّعوهم عليها، وقفوا إلى جانبهم إذا رغبوا فيها، ولا تفرضوا عليهم مسالككم، ولا تُكرهوهم على تقمُّص شخصياتكم، وهذا الكونُ قائمٌ على التنوع، وهو من مظاهر إبداعه، ومجالي ديمومته. إنَّ مما يحسب لكم أن تكتشفوا الدروبَ التي يمكن أن ينجح فيها أبناؤُكم، وتعينوهم على اجتيازها بأمانٍ وسلام، وإياكم أن تتعسفوا في استعمال الحق الذي لكم عليهم فتقسروهم على أمرٍ لهم فيه سعة، وتحملوهم على رأيٍ، لهم فيه اختيارٌ مقبولٌ آخر.
16- للفطرة والغريزة في أبنائكم متطلبات فاعملوا على تلبيتها وإشباعها، وأهمُّ هذه المتطلبات نداءُ الحاجة إلى الزواج وإعفافِ النفس وإرواء ظمئها، وإذا كان الزواج يشهد هذه الأيام تأخراً بسبب النظام التعليمي، وكثرة مطالب ذوي الفتيات، فإنَّ على العقلاء والمربِّين أن ينظروا في هذه المشكلة نظراً جاداً، ويوجدوا الحلولَ العملية لها، ومن أهم المقترحات لحل هذه المشكلة العملُ على منع عرفٍ فاسدٍ من أن يحكم ويتحكم في حياة الشباب والشواب، ويؤرق عيونهم، ويشغل بالهم، ويفسد حياتهم، ويدنِّس طهرهم.
17- أنتم تتطلعون إلى برِّ أبنائكم بكم ورعايةِ مشاعركم، فهل تعلمون أنهم كذلك يتطلعون إلى بركم بهم ورعاية مشاعرهم؟ لذلك فمن الجميل جداً أن يعود الآباءُ والأمهاتُ بخيالهم إلى طفولتهم ويستذكروا الرغبات التي كانت تسكنهم، والحاجات التي أَرَّقتهم، ويعملوا - في ضوء ذلك - على تحقيق هذه الرغبات، وقضاء تلك الحاجات لأبنائهم، مع الأخذ بنظر الاعتبار فارقَ الزمن، واختلاف العادات، وتغير المسارات.
18- الأسرة - بكلِّ مُكوِّناتها، من آباء وأمهات وأعمام وعمات ، وأخوال وخالات، وأبنائهم من الجيل الثاني - مدعوةٌ إلى التحقق بمعاني الأسرة الواحدة، من حيث العناية بالأبناء، وتقديم النصح والتوجيه والتعليم لهم. إنَّ ما يسمى بالخصوصية الأسرية يجبُ ألا يكون عائقاً عن تقديم النصح إذا وجب، والتوجيه إذا حق، وذلك بالأسلوب الدافيء الجميل، الذي ينصحُ ولا يقدح، ويسترُ ولا يفضح، ولتذكر الأسرة أنها كانت إلى عهدٍ قريب تشترك في التربية، فالآباءُ يربُّون والأمهات يربين، وكذلك الأعمامُ والعمات والأخوال والخالات، وكان إذا تدخل هؤلاء وجدوا من الوالدين الشكر والامتنان، والرضى والعرفان، فالعينُ تتقوى بأختها، والمؤمنُ كثيرٌ بأخيه، فلنعدْ إلى ما كنَّا عليه، لأنَّ تربية َالأبناء أعظمُ من أن يُفَرَّطَ بها بدعوى الخصوصية.
19- للصديق في حياة أبنائنا أثرٌ كبيرٌ جداً، فانتبهوا لأصدقاء أبنائكم، ومستواهم العلمي والخلقي والسلوكي، ورُبَّ صديقٍ كان لصديقه جنةً ونعيماً، ورُبَّ آخر كان عذاباً وجحيماً، فحاولوا أن تمهِّدوا الطريق أمام أبنائكم إلى جنة الأول، وتجنبوهم الاحتراقَ بجهنم الثاني، وأثرُ الصديق على صديقه واضحٌ معروف، وقد عشناه جميعاً في حياتنا، ومن الواجب أن نفيد أبناءنا من تجاربنا، وأن لا ندعهم يقعون فريسةً لصاحب السوء الذي يدمِّرهم ويدمِّرنا معهم.
20- من الآثار التي لا تفنى، والعناية التي لا تمحوها الأيام، أن يقوم الآباء بتأليف كتبٍ علميةٍ وأدبيةٍ للأبناء، يودعونها من علمهم وأدبهم وتجاربهم ما يرونه نافعاً لهم، محقِّقاً لتكوينهم تكويناً قوياً. وقد كان هذا في الأسرة المسلمة واستمرَّ مئات السنين، ومن هنا كان لزاماً على الأسرة المعاصرة أنْ تعتز بهذه السيرة، وتتابع تلك المسيرة، وأن تؤلف لأبنائها كتباً ورسائل بلغة هذا العصر ومعطياته، وسيسهم في دفعهم إلى ذلك وتسهيله وتذليله دافعٌ فطريٌ، هو حبُّ الأبناء وإرادةُ الخير لهم، وسيُقْبِل على هذه الكتب الصادقة المؤثرة غيرُهم، ويكون ذلك وسيلة لتعميم العلم ونشر الثقافة. فلنكتب لهم رسائلَ أو خطراتٍ أو ذكرياتٍ أو تجاربَ، أو مواقف، ولو في كلمات.
21- لا تدخلوا الغمََّ على أولادكم، بالشكوى الدائمة من عوارض الدنيا، وحافظوا على تماسككم أمامهم، وحافظوا على أن يَظَلَّ البيتُ دائماً واحةَ أنس، وملاذَ راحة، ومُسْتَجمَّاً جميلاً من أعباء الحياة.
22- كان للعلماء والملوك والأمراء إسهامٌ كبير في العناية بأبناء المسلمين، والنظر إليهم كأبنائهم، والحاجةُ إلى هذا الإسهام تتجدد بتجدد الأيام والليالي. نحن أسرةٌ واحدة، وأمة ٌواحدة، وجسدٌ واحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى. وما أجمل أن ينظر الجميعُ إلى الأبناء نظرتهم إلى أبنائهم، ويعاملوهم معاملتهم لهم، ويحرصُون عليهم حرصهم على أولئك!
تذكروا - أيها الآباء والأمهات - أنكم إذا فرَّطتم بهذه المسؤولية، وقصرَّتم في اكتشاف ذرياتكم فإنكم ستحاسبون أمام الله، والتاريخُ لكم بالمرصاد، كما رَصَدَ ثغراتٍ وقعتْ، وغفلةً حصلت، فأعيدوا النظر في مواقفكم، وجددوا العلاقة بأبنائكم، وادرسوا ملفاتهم، وتغلغلوا في أعماقهم، واعملوا فسيرى اللهُ عملَكُم ورسولُهُ والمؤمنون.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن