وداعٌ قبل الوداع
في قلب إيمان مزيج غريب من المشاعر المبهمة التي لا تستطيع لها وصفاً: أهو القلق أم الخوف أم الاضطراب؟ إنما ما يجمع هذه المشاعر هو أنها غير مرتاحة، فأسرعت لأختها في الله وهاتفتها ناشدة الراحة لقلبها، فأُخبرتْ أنها في المستشفى، فتساءلت إيمان: هل ذهبت لتزور مريضاً؟ فكادت تجزم أن زميلتهما المريضة التي تشتكي من التهاب كبد وبائي حادّ في حالة حَرِجة إنْ لم تكن قد فارقت الحياة - حسب آخر تقرير طبي - وقد تأتينا الدكتورة بالخبر اليقين بعد قليل، وما علينا سوى الانتظار!
وما هي إلا هنيهة حتى جاءت إحدى النساء تنعي الدكتورة... خبر يكاد لا يصدّق... أمر يدعو للذهول... بل الشلل!! استسلمتْ إيمان لموجة حزن جارف أذهلها عما حولها، فنسيت إعادة سماعة هاتفها وبقيت حرارته معلقة بين الشك واليقين تماماً كما قلبها...
وبعد ثلاث ساعات تقريباً... وبعد تسلل شيء من التوازن لإيمان... هاتفتْها إحدى زميلاتِها وأخبرتْها بأنها عادت لتوّها من السوق؛ إذ كانت تشتري جهازاً لابنتها العروس، وبعد أن دخل وقت الصلاة عرجت على المسجد فرأت جمعاً من المصلّين يحملون ميتاً، والغريب الذي أدهشها وأثار تساؤلاتها أنها رأت ابن الدكتورة ذا الثماني سنوات في المقدمة... ثم أردفت: هل حدث مكروه لجدّتهم؟.. اختنقت الكلمات في حلق إيمان الجاف... ثم تمالكت نفسها، ومن بين الدموع والآهات نعت الحبيبة الغالية. فذُهلت المتصلة وانهارت وقالت: ما أعجبك يا دنيا! بدأت يومي بتجهيز عروس حبيبة قريبة وأنهيتُه بتجهيز ميتة حبيبة غريبة. هكذا هي دنيانا: موت وحياة.
وفي مساء اليوم التالي، تجمّعت النساء في بيت العزاء. ومن بين النشيج كنّ يذكرن الفقيدة... مُحاوِلاتٍ مواساة والدة الدكتورة الثكلى، فتنجح محاولاتهن مرّة وتفشل مرات... فقد غَشِي الحاجّة غيبوبة متقطّعة... قالت إحداهن: هنيئاً لفقيدتنا، فقد وافتها المنيّة وهي على رأس عملها وبجوار مسجدنا الحبيب - المسجد النبوي الشريف - أي في حِمى الحرم، وقد حققت شطر الدعاء. اللهم شهادة في سبيلك أو موتة في مدينة رسولك. وأردفت: اللهم بلغنا ما بلّغتها. وقد كنت أشاركها في ركوب الحافلة صباح وفاتها فرأيتها في غاية الجمال والهدوء والطمأنينة. في الواقع كانت تتمتع بجمال مهيب راقٍ بعيداً عن حماقات التزين والتجمل المبتذل أو التعطر.. لا والله لم تكن تقرب هكذا عملاً خارج بيتها... أذكر أنها دعت دعاءها المأثور عندما كانت تخرج من بيتها، فتقول: "اللهم إني لم أخرج أشَراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سُمعة ولكني خرجتُ ابتغاء مرضاتك واتقاء سخطك، اللهم فاكتب لي من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عني من الشر أكثر مما أخاف، وصلَّ الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم".
في ذاك الصباح كانت فرحة تنثر البهجة بيننا، أذكر أنها جلست بجوار النافذة متأملة وكأنها تنتظر غائباً، ثم ذهبت لعيادتها وعالجت جميع المرضى الذين كانوا ينتظرونها... ثم... قررت أن تسلّم على جميع زميلاتها المعلمات بصفتها عائدة من العمرة قبيل أيام، ولم تدر أنها ستسافر بعد دقائق.. استراحت على أقرب أريكة ثم طلبت رؤية صغيرتيْها، وبعدها طلبت كأس ماء ثم... نظرت إلى الأفق.. ثم...
(يتبع)
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن