كاتبة سوريّة وإعلامية، في مصر، مشرفة على موقع (إنسان جديد)
رسائل وراء الكواليس
ها هو رمضان يغادرنا وكل منا له معه ذكرى، منا من كان له نقطة بداية لحياة جديدة، ومنا من كان بالنسبة له شهر تسلية ومرح ومسلسلات!!
مسلسلات!! تلك الصناعة التي يقضي إعلاميونا عاماً كاملاً يتنافسون لأجلها وقد غدت صانعةً للأذواق، مرسخةً للقيم والعادات، معززةً للمبادئ والأفكار.. حتى صار الثبات أمامها على القيم والمبادئ أمراً ليس سهلاً، ليس لما تقدمه من أفكار صريحة أو مواضيع مباشرة فحسب، بل لما تقدمه من رسائل خفية بات لزاماً علينا أن نتبصرها ونعيها، لأنها تؤثر في الأذواق وتبرمج العقول وتوجهها دون أن نشعر أو ندرك حقيقة هذا الغزو الذي نتعرض له...
وتتمثل هذه الرسائل في:
1- فصل الدين عن الحياة العامة وتحجيمه ببعض المظاهر والشعائر؛ وذلك بما يقدَّم في الدراما من مخالفات شرعية يقوم بها المتدينون على نحو طبيعي ومتكرر ومألوف لتبدو كأنها طرائق حياة عادية ومستساغة لا حرج فيها، ويظهر ذلك على نحو واسع في المسلسلات التركية بحيث يحمل أفراد الأسرة أسماء إسلامية (زينب، فاطمة، حسن، محمود...)، وبعض نسائها يضعن الحجاب، والعائلات تصوم في رمضان، ويصلون على موتاهم، والكحول في الوقت نفسه مشروب أساسي على موائدهم والعلاقات غير الشرعية نظام عادي في حياتهم... وحتى عندما يلتقي الرجال بالنساء يتصافحون ويقبّل بعضهم بعضاً... وهكذا ليغدو الدين زياً يرتديه الإنسان أو فلكلوراً يمارس طقوسه ولا علاقة له بحلال يتقيد به أو حرام يبتعد عنه...
2- تصوير المسلم الملتزم بلباس الإسلام والمقيم لأحكام الدين بإحدى صورتين:
• إما أنه شخص جاهل فقير فاشل اجتماعياً رجعي قد حجَّم عقله، وضيَّق أفقه، وابتعد عن العلم والحضارة والتقدم وبقي في مكانه؛ فتُقدَّم الخادمة أو الفقيرة غير المتعلمة على أنها محجبة ضعيفة مستكينة بينما تقدم السيدة المتعلمة المثقفة الأنيقة المثالية سافرة دون حجاب، تعتني بثيابها وشكلها وعقلها، فتتكلم بحكمة وفهم وتعالج الأمور بروية واتّزان.
• أو أنه شخص يعاني من الكبت والعقد النفسية والانغلاق مما يجعل سلوكه يناقض مبادئه، فيرتكب قبائح الأفعال ويتصف بأسوأ الأخلاق، وكأنه يتستر بستار الدين ليفعل المحرمات والكبائر، فهو إرهابي يقتل الأبرياء ويستبيح أعراض النساء ويسرق ويفعل كل الموبقات...
وهكذا ليجد المشاهد نفسه وقد نفر من الالتزام بشرع الله ولباس الإسلام كما نفر من الإقبال على الدين وتطبيق أحكامه...
3- تسويغ المعاصي عند الأزمات:
إذ تكون ردود أفعال الممثلين دائماً عندما تواجههم المشاكل باللجوء إلى الخمر والتدخين والعلاقات المحرمة؛ فلم نر أحداً مثلاً لجأ إلى كتاب الله أو أوى إلى نفسه فحاسبها أو وقف بين يدي ربه يدعوه
4- إزالة رهبة المعصية من النفوس وتمييع مفهوم الحرام وتشويهه؛ وذلك بما يعرض في الدراما هذه الأيام من مشاهد مبتذلة وتكرارها على نحو يتعود المشاهد عليها وتصبح مستساغة، وتصبح كلمة (عادي) هي المعيار الذي توصَف به كل الأفعال القبيحة أو العلاقات المحرمة.
5- تعزيز قيم المجتمعات الغربية في اللباس وطرق الحياة والعلاقات وأسلوب التفكير، وتقديمها على أنها الصورة الراقية للحياة، ودليل الحضارة والتقدم.
أذكر ما ذكرت على سبيل المثال لا الحصر، ويبقى لكل عمل إعلامي رسائله الخفية التي يمرر بها المخرج والكاتب ما يريدان، وإن من أغرب ما سمعت في الدفاع عن مشاهد الفحش والابتذال أنها تُقدَّم بهدف إصلاح المجتمع والتحذير منها!!! في الوقت الذي أثبتت فيه الكثير من الدراسات النفسية والاجتماعية أن جنوح أي شخص إلى سلوك مشين يخالف قيمه وقيم مجتمعه يتطلب أن يسمع بهذا السلوك، أي أن يعرفه، ثم يتخيله مرات كثيرة، وأكثر ما يساعد هذا الخيال على النمو هو أن يرى هذا السلوك يحدث أمامه، فإنه بذلك يستسيغه ويصبح شيئاً فشيئاً أقدر على فعله...
وهذا هو تماماً ما تقوم به الدراما (الجريئة) هذه الأيام.. وخاصة أن المشاهد المبتذلة التي تصور الفواحش لا تقدم بطريقة منفرة، بل يقضي المشاهد 29 حلقة وربما أكثر وهو مستغرق مع المشاهد الفاضحة والعبارات المبتذلة على نحو يثير غرائزه ويحرك رغبات نفسه وهواه، فيستمرئ الغلط ويصبح لديه فضول لفعله، أما عاقبة الغلط فلا تكون أكثر من حلقة واحدة وأحياناً لا تتعدى مشهداً أو مشهدين... وفي كثير من الأحيان تبقى النهاية مفتوحة دون حل ولا علاج...
ومن جهة أُخرى، نجد أنّ مقابل المشاهد والمواضيع المبتذلة لا تقدَّم مشاهد راقية تعرض الصورة المضيئة لما يحويه المجتمع من التزام حقيقي بالدين وشخصيات متزنة وإيجابية ومنتجة....
فإن كان على إعلامنا الإسلامي أن يعي دوره في سد ثغر خطير في العمل الإعلامي، فإن على أجيالنا أيضاً أن يعوا الرسائل التي توجه لهم من خلال هذا الإعلام ورفضها وحتى الاحتجاج عليها..
أذكر منذ 4 سنوات حملة على الإنترنت قام بها مجموعة ناشطين كانت تدعو لمقاطعة المنتجات التي ترعى المسلسلات أو البرامج الهابطة وتقدم إعلاناتها أثناءها، ومراسلتها ومراسلة الشركات المنتجة للاعتراض على ما يتم تقديمه، وإنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لهذا الهدف... ربما يقول قائل الآن: وما يجدي مثل هذا العمل؟
والجواب: إن الرفض والمقاطعة لا يتعدّيان مرتبة أضعف الإيمان، أما التلقي والاستسلام فهو انتحار بطيء لقيمنا ومبادئنا وبوصلة أجيالنا... ولا ننسى أن الشجرة الكبيرة كانت بذرة، وأن الجهود الصغيرة تبني الأمم الكبيرة...
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة