أسبوعان في غزة
أسبوعان في غزة
مع الطبيب الفلسطيني الوحيد الذي دخلها أثناء الحرب
د. غسان أبو ستة
خاص: منبر الداعيات
«درجة التكافل الاجتماعي فاقت كل التخيلات.. الناس تشاركوا في كل شيء.. لولا قوة إيمانهم في غزة لفقد الناس عقولهم»..
كانت هذه أبرز الانطباعات التي خرج بها د. غسان أبو ستة من قطاع غزة.. بعدما قضى أيام الحرب يعالج الناس ويُجري العمليات بما توفر من إمكانات بسيطة في مجمع الشفاء الطبي.
الجرّاح الفلسطيني، رئيس قسم جراحة التجميل في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، د. غسان أبو ستة هو أحد ثلاثة أطباء - العربي الوحيد - سُمح لهم بالدخول إلى قطاع غزة أثناء العدوان الصهيوني الأخير، فيما مُنع الباقون؛ وذلك جزء من مخططهم الرامي إلى انهيار القطاع الصحي، بحسب د. أبو ستة.
زارته «منبر الداعيات» في مكتبه في مستشفى الجامعة الأميركية، بعد عودته من غزة، للوقوف معه على الوضع الإنساني فيها.بل الدخول في تفاصيل اللقاء، نتعرف معاً إلى ضيفنا الكريم:
• د. غسان أبو ستة (45 عاماً) متزوج وله ولدان.
• تخرج من جامعة غلاسكو عام 1994 في بريطانيا حيث عاش 25 عاماً، ومارس الطب قبل أن ينتقل إلى بيروت للعمل في مستشفى الجامعة الأميركيّة في العام 2011.
• تولى منصب رئيس قسم جراحة التجميل في مستشفى الجامعة الأميركية.
• محاضر فخري في جامعة كوين ماري في لندن.
• عضو ناشط في جمعيّة العون الطبي للفلسطينيّين.
• شارك في العمل الميداني الطبي متطوعاً في عدد من البلدان: حرب الخليج الأولى (1991)، جنوب لبنان (عناقيد الغضب: 1996)، العراق أثناء العدوان الأمريكي (2003)، غزة (الانتفاضة الثانية 2000 – عملية الرصاص المصبوب 2008 – عملية عمود السحاب 2012 – عملية الجرف الصامد 2014).
لم تكن رحلة د. أبو ستة من بيروت إلى غزة سهلة؛ فقد سافر إلى عمان ومنها إلى أريحا، حيث احتجزه الصهاينة عشر ساعات بهدف إعناته رغم كونه يحمل الجواز البريطاني.. يقول: «جاءت عاملة التنظيف ومعها جواز سفري لتسلمني إياه!!!» بعدها دخل غزة من معبر إيريز.. وهناك أيضاً تعرض للمضايقات من قبل الصهاينة الذين أوقفوه بحجة أن اسمه غير موجود لديهم: «مع أن منظمة الصحة العالمية هي التي أعطتني التصريح للمرور!» ثم سُمح له بالدخول. «على الجانب الفلسطيني وجدنا حافلةً تنقل الصحفيين، ركبنا معهم بالتنسيق مع الصليب الأحمر، وصلنا إلى فندق الديرة ومنه إلى المستشفى، وبقيتُ هناك خمسة عشر يوماً».
في غزة هاله الاستخدام المفرط للقوة من قبل العدو بشكل غير مسبوق.. فلدى سؤاله عن الفروقات التي تتميزّ بها هذه الحرب عما سبقها من حروب، ذكر عدداً منها:
«أولاً: في عام 2008 أُبيدت عائلتان، أما في هذه الحرب فقد أُبيدت 77 عائلة بأكملها (من الجد حتى الحفيد) لدرجة أنكِ لو بحثتِ الآن في السجل المدني لن تجدي لهم أثراً. كما أن هناك الآن أكثر من 2000 يتيم فقَد والده أو والدته أو كليهما.
ثانياً: منع خروج المصابين أو دخول الطواقم الطبية إلى قطاع غزة، بهدف إحداث انهيار داخلي في القطاع الصحي.
ثالثاً: التدمير المُمَنهج لمناطق واسعة من القطاع، وإحداث أزمة ديمغرافية؛ فقد تم تهجير 400 ألف إنسان من أصل مليون وثمانمئة ألف!!».
وهنا يتوقف الدكتور عند الجانب الإنساني الذي تميّز به سكان القطاع، حيث يستدرك: «... ولكن الذي حدّ من هذه المأساة: التكافل الاجتماعي بين الغزاويين أنفسهم باستقبالهم العوائل المهجرة، لدرجة أنكِ تريْن العائلة تستقبل أربع أو خمس عوائل لا تربطهم بها أية علاقة قرابة أو نسب. كما أنني رأيت الأطباء والممرضين ينامون في المستشفيات ليتركوا مجالاً للمهجرين في بيوتهم؛ فالمصاب واحد... في حين توزع بقية المهجرين على مدارس الأنروا.. ولولا تكافل الناس لما استوعبت المدارس هذا العدد الهائل».
ولدى سؤالنا الدكتور عن مستويات الإصابات التي عاينها أثناء خدمته في مستشفى الشفاء أجاب: «أغلبها متوسط وخطير، وكنتُ يومياً أُجري ست أو سبع عمليات، 80% منها إصابات دائمة. وتشير الإحصاءات إلى أن هناك حوالي ألف طفل معاق بين بتر وإصابات بالدماغ وفقدان بصر... والهدف إنشاء جيل يكون عالة على أهله اقتصادياً واجتماعياً»..
وماذا عن الدور الطبي والإنساني للمستشفى؟ يخبرنا د. أبو ستة بأن الطواقم الطبية في غزة كانت تعمل بتفانٍ منقطع النظير: «المستشفى لم يقتصر دورها على الطبابة فقط، ولكنها مارست دوراً إنسانياً بالدرجة الأولى؛ فقد كان همها التخفيف عن الناس... أي نظام صحي يأتيه 11 ألف جريح خلال 51 يوماً لن يستطيع الصمود وسينهار». ويعزو د. أبو ستة ذلك إلى التفاني الذي شهده القطاع، وكذلك تجارب المعارك السابقة وتراكم الخبرات.. كل هذا أسهم في التماسك والاستمرار.
وكيف هي ردة فعل الطبيب عندما يؤتى بفرد من عائلته مصاباً أو مستشهداً؟ يجيب د. أبو ستة: «يوم أن تلقى طبيب التخدير الدكتور صواف خبر استشهاد أخيه وأولاده الثلاثة معاً، قام ببعض الاتصالات واحتسبهم عند الله وتابع عمله قائلاً: «إحنا مش أحسن من الناس، إللي عم يصير معهم بيصير معنا»..
أما عن معنويات عامة الشعب فيخبرنا د. أبو ستة أن قوةَ إيمان الناس سببُ صمودهم...: «وإلا لفقدوا عقولهم».. هم يتقبلون ما يجري بكل سَكينة وراحة لأنهم مؤمنون بقدر الله.. هناك إصرار من الشعب وقرار جماعي أنهم يفضلون الموت في الحرب على العودة إلى الحصار، حيث الموت البطيء..
الحديث عن صمود الشعب ومعنوياته العالية قادنا لاستجلاء رأي الدكتور حول علاقة الشعب بمقاومته: «هناك احتضان كامل للمقاومة.. فشبابها أولاد هذا الشعب، إخوتهم، أحبابهم.. علاقة الشعب بمقاومته كعلاقة السمكة بالبحر.. المقاومة أبدعت، والمقاومون حفروا الأنفاق بأظافرهم.. هناك مدينة ثانية تحت الأرض.. لقد أثبتت المقاومة نجاحها الباهر، ولولا هذا الانهزام السياسي لكان الوضع أفضل بكثير؛ فالطبقة السياسية أثبتت فشلها، ورغم ذلك تريد أن تُبقي قرار السلم والحرب بيدها ثم تعلن رفضها للحرب».. ويعلق الدكتور مستغرباً: «أنت أمام عدو يريد إلغاءك ويحتل أرضك ويقاتلك كل يوم.. فهل هو حب من طرف واحد؟!!».. ويضيف: «المأساة أن هذه الطبقة لديها تحالفات لا ترتبط بالمصالح الفلسطينية، وهي غير قادرة على التخلص منها، فتآمرت على إفشال هذا الانتصار الرائع».
وبصفته مراقباً، يرصد د. أبو ستة مستويات تفاعل الناس عربياً وعالمياً مع هذه المعركة فيقول: «على المستوى الشعبي حدث اختراق هام في أوروبا؛ فقد تخلصت من عقدة الذنب تجاه اليهود الذين برهنوا بأنهم يبتزون العالم ليرتكبوا جرائم أكثر سوءاً. كذلك إعلان أميركا اللاتينية تحالفها مع الشعب الفلسطيني. في حين خرجت الدول العربية من التاريخ.. والعوض على الله.. فقد انتقلت من مرحلة الصمت والتآمر من تحت الطاولة، إلى إعلان تحالفها مع العدو الصهيوني؛ وهذه مأساة كبرى. أما عن الشعوب العربية فوضعها مُزْرٍ، فهي مشغولة بهمومها الداخلية!
ونختم مع ضيفنا د. غسان أبو ستة باستشراف المستقبل والتعلم من دروس هذه المعركة: «الحرب قادمة قادمة لأن الهدف الإسرائيلي واضح ومعلوم عند الجميع وهو إبادة الشعب الفلسطيني؛ لذلك يجب:
أولاً: الاعتراف بأن غزة منطقة محررة، وتقوم بما تبقّى من حرب لتحرير فلسطين، وهي تحتاج إلى أعداد هائلة من الطواقم الطبية المتخصصة بإصابات الحروب.
ثانياً: الإسراع في بناء ما تهدم وزيادة الكفايات البشرية والطواقم الطبية للقطاع الصحي في غزة؛ فقد دمرت إسرائيل خمس مستشفيات تدميراً كاملاً، منها مستشفى الوفاء التي كانت متخصصة بتأهيل الإصابات الدماغية. ومن ذلك تأمين المعدّات والآلات الطبية، زيادة سيارات الإسعاف بدل المدمرة، زيادة عدد الأَسِرّة في المستشفيات؛ ففي مستشفى الشفاء مثلاً يوجد 260 سريراً وهذا العدد غير كاف.. وفي مجال إعادة البناء، من الأهمية بمكان ابتعاث الطلاب المتميزين لدراسة الطب والتخصص في الخارج، كذلك السماح للطواقم الطبية بالدخول إلى غزة لتدريب الخريجين.. ذلك أن سلطات الاحتلال قامت بمنعهم منذ عام 2008!».
ولدى سؤاله عن الجهات المعنية بإعادة تأهيل القطاع الصحي أجاب: «الجميع مَعنيّ بالأمر: الجمعيات الطبية، الاتحاد العام للأطباء الفلسطينيين، الاتحاد العام للأطباء العرب، وزارة الصحة الفلسطينية، منظمة الصحة العالمية... مطلوب منهم جميعاً دراسة القطاع الصحي خلال الحرب للتعلم من النتائج، ويجب أن نخرج من هذه التجربة وقد عرفنا نقاط القوة وكذلك نقاط الضعف، لنكون أكثر قوة في المرحلة المقبلة.
ثالثاً: إعادة بناء قيادة جامعة للشعب الفلسطيني، والكارثة أن يتحول الانتصار العسكري إلى تناحر بسبب المراهقة السياسية!
رابعاً: تفعيل العمل النضالي في الضفة الغربية..
أخيراً: شعبنا في الأراضي المحتلة سنة الـ 48، ورغم مرور 66 عاماً من الاحتلال، برهن أن لديه من الشجاعة والنضج السياسيّ ما يفوق بقية الفئات الفلسطينية؛ فمدينة عكا مثلاً وضعها الاقتصادي مرعب، والشعب تحت حصار فظيع، ورغم ذلك خرجت مظاهرات بالآلاف.
أرى أن هناك تحدياً ووعياً سياسياً، فالهوية جامعة، والشعب يخوض حرب تحرير ليس له من خيار غيرها».
***
نشكر طبيب التجميل الجراح د. غسان أبو ستة على جهوده الطيبة في المجال الصحي الإغاثي، كما نشكره على استضافتنا وإفادة قرائنا بمعلوماته القيّمة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن