النشيد الإسلامي..سعة الموضوع وضيق الإختيارات
كما في الإسلام دعوة للتدين وسمو الأخلاق ومقاومة الظلم ونفع الناس، ففيه أيضاً احتفاء بالإنسان كإنسان، وتقدير للجمال واعتراف بأهمية ما هو تفصيلي ويومي وواقعي من جوانب الحياة المختلفة. ومن هذه الثنائية لنا أن نفهم أن الفقيه الحق هو من ينجح في فهم تفاصيل واقعه بقدر ما ينجح في إعمال النظر بين سطور قراطيسه! ولما كان الفن انعكاساً لأفكار المجتمع (قضاياه وأحلامه وواقعه ومشاكله ومشاغله) فيحق لنا أن نتساءل إن كان النشيد الإسلامي انعكاساً صادقاً أو حقيقياً شاملاً للمجتمع الذي يخاطبه أو حتى الذي ينشده؟
ليس مطلوباً من الأنشودة أن تكون موعظة أو بياناً سياسياً، ولكن في الوقت نفسه ليس مقبولاً أن يقزم الفيديو كليب معاني الإسلام لتنحصر في مشاهد مكررة لمساعدة ضرير يعبر الشارع أو حمل كيس يسقط من أحدهم أو عودة ابن ضال لأمه التي عقها... وهي سلوكيات لن يختلف موقفك منها عن موقف بوذي في الصين أو شيوعي في تشيلي.
أثر النشيد تراجع كثيراً بعد أن كان طاغياً بشكله التقليدي في الثمانينات – مستفيداً من المد الشعبي للصحوة وكونه الأداة الإعلامية شبه الوحيدة وقتها عن الدعوة، لكن الأهم أن محاولات مجاراة الدارج عبر تحويل النشيد إلى فيديو كليب كانت ركيكة غالباً، ليس فقط من ناحية التنفيذ وإنما بالأساس من ناحية الوعي بأدوات هذه الصنعة ومدى القدرة على توظيفها .
في حوار عفوي مع مجموعة من الأصدقاء تساءلت كمتذوق للألحان والنشيد إذ لا أدعي معرفتي المتخصصة عن الأغنية الوطنية العربية التي أرى أنها لم تستطع مجاوزة تراثها الطربي الطاغي ولم تنجح بالانسجام مع معانيها الملحمية، الأمر الذي يرجع لطبيعة المدرسة الشرقية في التلحين والتوزيع التي غلب عليها الطرب والحنين. فأفاد أحد المنشدين أن هناك اغانيَ وطنية قوية الألحان لبعض نجوم الشرق، وعندما ضرب لنا بعض الأمثلة كانت هي الاستثناء الذي يثبت الفرضية؛ إذ أن ألحان وتوزيع هذه الأغاني التي تم الاستشهاد بها هي أقرب إلى المدرسة الغربية منها إلى الشرقية، ولعل هذا ما جعلها منسجمة وقوية كأغنية وطنية. فلنعترف أنه في الوقت الذي اقتصرت فيه وظيفة الأغنية في الشرق على الهروب من واقع الاستبداد إلى عوالم متخيَّلة أو ماضٍ يُتَغَنّى به كانت الأغنية في الغرب إحدى أدوات فهم الواقع وتغييره .
يضع بعض المنشدين جملة موسيقية - أو أقل! - ويكررها ذاتها حتى آخر النشيد الذي تقرأ في نهايته ما يشير أنه من ألحان فلان!! لا أعلم إن كان هذا يمكن أن يسمى تلحيناً، لكن ما هو أكيد أنه لا علاقة له بالإبداع، وهو بالنتيجة يحط من الفكرة ولا يخدمها.
أثناء عملي على فيلم يؤرخ لتجربة المنشد الإسلامي الكبير أبو مازن وهو رائد النشيد الإسلامي الحديث، والذي تربى الملايين من أبناء الصحوة على أناشيده كما ذكر القيادي الإسلامي أسامة حمدان - لاحظت ثراء ألحانه ومطابقتها للروح الملحمية التي تحفل بها كلمات نشيده، ولم أستغرب عندما أخبرني أن أكثر ما تأثر به خياله الموسيقي هو الموسيقى السوفييتية التي تألق روادها بثوريتهم وملحميتهم، وكان يستمع لها عبر الراديو في شبابه المبكر. بالمقابل نجد أبو الجود مثلاً لم يستطع الانعتاق من جوّه الطربي الحلبي التقليدي الذي كان مناسباً للمدائح لكنه بالتأكيد غير مناسب للملاحم، ما جعل من محاولاته خارج إطار النشيد التقليدي (نشيد التصوف والمدائح) أضعف منها داخله.
قلة التنافس وعدم وجود معايير ضابطة ومتعارف عليها لصنعة النشيد، إضافة إلى تراجع الأصوات والخامات لا ينفي تجارب مهمة نجح فيها المنشدون الشباب في التجديد، لكن تبقى هناك حاجة دائمة للمراجعة والتطوير الذي لن يحصل قبل الاعتراف بالواقع.. وهو أن النشيد الإسلامي - والفن الإسلامي عموماً – يعيش أزمة مزمنة ومركبة.
• منبر الداعيات: تطرق الكاتب الفاضل إلى موضوع الموسيقى، والموسيقى تطلق والمقصود منها أحد اعتبارين: إما المعازف، وهذه وردت نصوص صحيحة صريحة بتحريمها إلا ما استثني، وإما جَرْس الأنغام والأصوات كما يعبر بعضهم: (موسيقى القرآن).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة