البحث عن الحقيقة
هنا في هذه البقعة من الأرض ترقد رحلة استمرت أكثر من نصف قرن من البحث الدؤوب عن الحقيقة.
هنا وقفت الدموع تودع حبيبها... هنا ترجمت الفلسفة معنى الحياة ومعنى الموت...
هنا صُرعت الخيالات العلمية واختفت النظريات الملونة بالرأسمالية والليبرالية والشيوعية، بعدما أسلمت الروح واستسلمت لباريها.
لم يكن الشاب ذو الأربعة عشر ربيعاً كأقرانه من الذين عرفوا ديناً بمفهومه التقليدي آنذاك، ولم يكن يجد لحياته معنى في ظل والِديْن لم يدركا من الدنيا غير الكفر.
في كنف هذه العائلة شب فتىً باحثاً عن حقيقة وجوده، ولم يرض أن تمر حياته كنسيم الصيف لا يكاد يهب حتى يختطِفَه لهيب الحر.
فأي بؤس لمن مرّ في هذه الحياة وقد أوتي ما يمكِّنه من أن يصنع فيها فضيلته فلا يترك فيها غير رذيلته؟!
كانت نقطة التحول الأولى يوم قال:«اليوم أبدأ حياتي بوجه جديد، وهأنذا أعرف أن حياتي أصبح لها معنى....» ليعتنق المذهب البروتستانتي المسيحي!
لم يعارض الوالدان هذا التحول، واستسلما لما أراد... وكيف للاشيء أن يقف في وجه أي شيء؟! ورغم أن هذا الأخير لا يخلو من النقص والخلل، ولكنه ملأ ذاك الفراغ الروحي الذي لا يمكن أن يملأه غير التعلّق بلاهوت يعبده...
ومضى باحثاً عن الحلول التي تحمل الإنسان إلى معنى إنسانيته، ومنقباً في النظريات الفلسفية، حتى أتم دراسته الجامعية... إنه القلب المتلهف إلى إرواء فطرته بما يكفل لها البقاء...
كانت الليالي تلفّه في أستارها وتُغرقه في ظلماتها الفلسفية مع متاهات النظريات، يسأل الكتب عن معنى الإنسان ومعنى الحياة ومعنى الكون في ظل صراع السياسات الفكرية...
ينظر في ما قاله الفلاسفة تارة ويناقش الأفكار تارة أخرى، يحاور الفكرة وتحاوره! وينظر في الكون ويستفسره.
وقد أدركت روحه أن لهذا الكون معنى وأن للإنسانية معنى وأن المعرفة لا تبدأ من اللاشيء! وأن الحركة لا ترتبط بنظام!! وهو في تنقلاته وتنقيبه عن الحقيقة، فأين سيجدها يا ترى؟!
إلى أن رأى في الشيوعية ما لم يجده في غيرها من التكافل الاجتماعي الذي تفتقر إليه كلٌّ من الليبرالية والرأسمالية.. كانت بالنسبة إليه الخلاص من الأنظمة النازية الظالمة، إنها الحياة التي يبحث عنها، وإن لم يرض أن تكون له ديناً... ولم يطل به الأمر حتى انضم إلى صفوفها وطوق حياته بمعانيها.
واستمرّت سفينته تبحر في البحث عن جزيرة النجاة، تحملها الأمواج وتتقاذفها العواصف والتقلبات، تعيي الروح وترهق العقل! أين الخلاص الحقيقي الذي يمنح كلاً من الروح والجسد والعقل ما يستحقه وما ينميه في مساره الذي وُجد من أجله؟!
وتقيده الأيام بسجن النازية في أرض الجزائر، ليشهد يومٌ من أيامها على الهدية التي تحمل خارطة الوجهة التي ستخلصه من ربقة العبودية لتلك النظريات الفكرية الضالة.
ويحدثنا ذلك اليوم بما شهده قائلاً:
«أشرقت شمسي على ضوضاء ارتجت لها أرجاء السجن الذي حوى الآلاف من الشبان المناهضين للنازية وهم يحتفلون بقادة لهم قدموا في مسيرة النضال وضحوا من أجلها، فكافأهم المناضلون بمظاهرة أثارت حمية قائد السجن، وأمر المرابطيْن (وكانا مسلـمَيْن) أن يفتحا رشاشيهما على السجناء، ولكنهما أَبَيا...
وكان من بين السجناء ذلك الباحث، لقد رأيت في عينيه استغراباً واستهجاناً ألاّ يلتزما بأمر القائد وقد علما أنهما سيذوقان طعم سَوْطٍ سيجعل من جلديهما مسرحاً لحفلة عذاب!
ما الذي يحمل مثلهما على ما فعلا؟ ولماذا يمنحاننا فرصة للحياة؟! أي أخلاق لهذا المحارب؟! ومن أين أتى بها؟! لقد سمعت منه هذه التساؤلات وأكثر...
كان الموقف موجةً دفعت بسفينته إلى عالم النور الذي يدحض كل الظلمات، ويظهر الحق ويزهق الباطل بلا ارتياب»...
كانت بداية رحلته في البحث الفكري لسنوات، إلى أن أعلن إسلامه، فكانت ولادة حياة جديدة في ظل دين الله الذي يوازن بين الروح والمادة، ويعطي لكل ذي حق حقه..
ولأن الباطل لا يقبل الحق إذا ما دخل داره، فقد كان لأفكاره بعد إسلامه عداء كبير، لكن ذلك لم يُثْنِ عزيمته، واستمر في أمره إلى أن احتضنته الأرض لتخبره عن الحقيقة التي أدركها: «الإنسان ذاتٌ تعمل في الدنيا، فإذا ما انتهى منها، بقيت أعماله لتحمله إلى حياته الخالدة: جنة أو جحيم»..
• هذه القصة مقتبسة من أحداث حياة الفيلسوف الفرنسي «روجيه جارودي» أو «رجاء جارودي» الذي أعلن إسلامه عام 1982م بعد بحث عن الحقيقة دام لسنوات، وكانت بداية مسيرته في الدفاع عن الإسلام.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة