على ضفاف الذاكرة..
أمارس طقوسي اليومية.. أتصل بقلبها النابض بالحب والحنان لأطمئن عليها.. نبرة من الحزن تطرّز صوتها.. ما الأمر؟! تُتمتم أن حال جارتنا المقرّبة في خطر.. هي تقبع في العناية الفائقة يجتاح دماغها نزيف ثائر! ووضعها خطِر!
خمس وثلاثون سنة قضيناها في جوارها.. بحلوِها ومرّها.. باتت حرفاً ثابتاً في أبجدية الحياة.. فكيف ترحل؟!
أقف عند نافذة ذاكرتي التي ختمتها بالشمع الأحمر.. وقد عاهدت نفسي أن لا أعود إليها إلا لأسترق النظر.. فأتذاكر درساً أو أنتفع من موقف.. ثمّ أغلقها مرةً أُخرى فأرتاح من ضجيجها!..
أول حالة وفاة مرّت عليّ كانت لأستاذي في المرحلة الثانوية.. لم أفقه يومها معنى الموت.. ولكَ أن تتخيّل صدمة الفَقد لِمَن لا يفهم فلسفة الموت والحياة عن إيمان! كان صخب سكون الموت يقتلني ولا أفهم ماهية هذا (الكائن) الذي يزور فيقبض الأرواح ثم يرحل! ليس وحيداً.. وإنما يرافقه مَن أحببنا.. ثم هداني ربي جل وعلا للإيمان بعد جهالة.. فأصبح لكل شيء طعم آخر.. جميل.. راقٍ.. حتى ذاك (الكائن) بات أقرب!
تحضرني ذكرى وفاة أبي رحمه الله تعالى بعد صراع مع المرض دام ست سنين! كان ذاك (الخبيث) يقتات من جسده الصابر ويتنقل بين أجزائه حتى أسلم الروح تائباً.. كان قد دخل (الموت السريري) في آخر أيامه.. وكنتُ أجلس بجانبه صباحَ يوم جمعةٍ أتلو سورة (طه).. ولم أُنهِ آياتها الأولى حتى شعرت بصقيعه.. وعرفتُ أن نهايةً قد سُطّرت في كتابه.. وانتهت حكاية صراعه مع المرض.. وبدأت قصتي مع الحنين في حضرة غيابه!
يومها أدركت ما معنى أن يثبّت الله جل وعلا بفضله وكرمه الفؤاد! بقي أمامي جثة مسجاة أملّي النظر منه قبل فِراقٍ طويل! وما إن حملوه للغسل حتى شعرت وكأن قلبي يهوي من فضاء عالٍ إلى وادٍ سحيق! فقدتُ توازني... ولبرهة شعرت أن فؤادي هواء! أسدلت ستار عينيّ ودعوت برجاء: اللهمّ ثبّتني، فلا مولى لي سواك! وبين غمضة عينٍ وانتباهها شعرتُ أنّي أوتيتُ قوةً كالجبال! هو ذا ربّي اللطيف.. الرحيم.. المجيب! شعرتُ بمعنى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) (إبراهيم: 27).. عشتها حقيقة، ولا زلتُ أشعر بلذّة ذاك الثبات حتى اليوم.. وعند كل غوص في الذاكرة أستمدّ من هذا الموقف زاداً للمسير.. استجمعتُ قواي حينها وبتّ أثبّت الأهل: ارتاح الآن وأصبح عند مولاه.. فادعوا له بالثبات.. والله قادر!
هي الحياة هكذا.. وعرة.. كثيرةٌ ابتلاءاتها.. جميلة بكدرها إن ربطناها بالآخرة.. فكلّ أمر المؤمن له خير.. فإن أحسن قراءة الحمد والشكر والصبر، وتشبّث بالكتاب والسنّة قولاً وتدبراً وعملاً، وربط قلبه بربّه العظيم، فأي كدرٍ بعدها يغمّ؟!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة