القلة المؤمنة
عندما وصلت البشرية إلى ذروة ظلامها وطغيان جهالتها خلال فترة انقطاع الوحي، لم يُهدِ الله لها مزيداً من التقدم التكنولوجي والتطور الحضاري والتألق المدني ليبدِّد تلك الظلمات، بل أهداها محمداً صلى الله عليه وسلم ليُخرجها برسالة الإسلام إلى النور... وفي ذلك تحديد إلهي للسبيل الوحيد الذي يرفع الظلام عن الإنسانية.
فهو هدف واضح قدّمه القرآن الكريم لبيان غاية الوحي الذي بُعِث به النبي صلى الله عليه وسلم، والآيات بهذا الشأن كثيرة، منها قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ...) [إبراهيم:1]، _هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ_ [الحديد:9]... إذاً، فالوصف الإلهي لتلك الفترة التي سبقت مولد الرسول الكريم _ وبَعثه بأنها غارقة في الظلمات، يصدر في الوقت الذي كانت تحكم البشريةَ امبراطورياتٌ ضخمة، وحضارات قائمة، ومدنيات تميّزت بالتطور العلمي بحسب ذلك الزمن، وهذا يدل على أنّ مقياس التقدم في ميزان الله هو مقدار ما يوثِّق العبد صلته بربه، ومقدار ما تنضبط هذه الحضارة أو المدنية بضوابط الحكم الإلهي.
بين الغاية والوسيلة
ورغم الجهد الذي بذله النبي صلى الله عليه وسلم لبيان وظيفة الإنسان التي كانت مَدار الرسالة الخاتمة، لا زالت نخبة من مفكرينا - غربية الهوى - تعيش أزمة حقيقية لجهة التمييز بين «مركزية عبودية الخالق» و«ثانوية عمارة الأرض»، وحيث إنها تناست أنّ الأُولى هي الأصل والغاية، والثانية - رغم أهميتها - فرع عنها ووسيلة لتحقيقها، فقد حسمت أمرها بجعل المركزية للعمارة والمدنية والحضارة المستوردة، وبتقديمها على العبودية، معتبرةً أنّ ما توصّل إليه الغرب من تقدم تكنولوجي غير مسبوق هو الأساس، وكل ما يخدم هذا الهدف إنما هو وسيلة لتحقيقه! غاضّة الطَّرْف عن فوضى الأخلاق التي تعيشها الأمم الغربية بسبب مغالاتها في خدمة المادة على حساب الروح!
سعادة البشرية بأيِّ اعتبار؟
وقد تناست تلك النخبة أن الأمم السابقة كانت تتمتع بحضارة ومَدَنية لم تكن مقياس التقدم الحقيقي في ميزان الله، وبالتالي لم تَحُل دون شقائها ووقوع العذاب بها، قال تعالى عن قوم فِرعَون: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * ونَعْمةٍ كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوماً آخرين) [الدخان: 25 – 28]، هذا بعد أن خاطبهم رسولهم موسى عليه السلام بقوله: (وأن لا تَعلُوا على الله، إني آتيكم بسُلطانٍ مبين) [الدخان: 19]، وقال تعالى مخاطباً قوم عاد على لسان نبيّهم هود: (أَتَبنون بكلِّ رِيعٍ آيةً تعبَثون * وتتَّخذونَ مصانعَ لعلَّكم تخلُدون * وإذا بطشتُم بطشتُم جبّارين * فاتقوا اللهَ وأَطيعون * واتّقوا الذي أمَدَّكم بما تعلمون * أمدّكم بأنعامٍ وبنين وجناتٍ وعيون * إني أخاف عليكم عذابَ يومٍ عظيم) [الشعراء: 128 – 135]...
مؤامرة (تجديد الخطاب الديني)!
ورغم كل الدلائل العقلية والفطرية والشواهد التاريخية على كَذِب وبطلان تلك الدعوى، فقد سعت بعض «النُّخَب» سعيها مدفوعةً - من حيث تدري أو لا تدري - من مؤسسات سياسية وبحثية غربية للترويج لمبدأ ذي مدلول سياسي خطير: «التجديد في الخطاب الديني» باعتبار أنّ هذا الخطاب يركِّز على العمل للآخرة ويُعطي للدنيا دوراً ثانوياً قيمته تنحصر في خدمته لعمارتها، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77]...
هذا الخطاب الأُخروي - من وجهة نظرهم - أصبح مترهِّلاً لا يستقيم مع متطلَّبات الحياة ولا ينسجم مع تطوُّرات هذا العصر! وحقيقة الأمر أنه لا ينسجم مع مصالح الدول الكبرى، وعليه فقد انبرت أقلامٌ وأَلسنةٌ وأَسِنّةٌ لمحاكمة الفكر الإسلامي بمنطلقاته الشرعية، داعيةً إلى إعادة قراءة التراث الإسلامي على ضوء المدنية الحديثة، محاولةً لَيِّ أعناق النصوص لتخدم هذه الفكرة، رغم معاينة العقلاء لما جرّه هذا التفكير الخطير من ويلات على الإنسانية، فالذي يجعل غاية الوجود وقمة الحضارة والتطور:السعي لتحقيق الرفاه المادي لطبقة بعينها من البشر وليس للبشرية، لن يخضع لسلطان الحكم الإلهي وضوابط الشريعة في رحلة سعيه لذلك؛ فتصبح سرقة مقدّرات الشعوب واستنزاف خيرات البلاد مصالح متبادلة، ويصير العدوان والقتل باسم القضاء على «الإرهاب الإسلامي!» الذي يَحول دون تحقيق تلك المصالح مشروعاً، وتصبح معاداة الدين خطاباً عصرياً متطوراً، ويصبح الحكم على الأشياء خاضعاً لميزان المادية... مع أنّ الله لم يُعطِ للدنيا بما فيها من زينة وزُخرف قيمة كبرى، وإنما جعلها موضع فتنة وابتلاء إرادة: (إنّا جعلنا ما على الأرضِ زينةً لها لِنَبلوَهم أيُّهم أحسن عملاً)، ورسوله صلى الله عليه وسلم نبّه إلى تلك القيمة حين قال: «الدنيا ملعونة، ملعونٌ ما فيها، إلا ذِكرَ الله، وما والاه، وعالماً أو متعلِّماً»، في مقابل تركيز الخطاب القرآني في عمومه على قيمة الآخرة وبأنّ الفوز بها مرهون بعمارتها: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) [الشورى:20].
الدور التجديدي للإمام حسن البنا
وعليه، فالغبَش الذي شابَ هذه الحقيقة لدى قطاع واسع من أبناء الأمة كانت نتيجته ذلك النخر الذي تفشَّى في الأمة وعطّل طاقات أبنائها، فطال الفساد مختلف مناحيها، وقد أحسن الإمام الشهيد حسن البنا - المجدّد الحقيقي الذي أعطى لمصطلح التجديد بُعده الشرعي بمعنى إعادة الدين في نفوس أبنائه غضّاً كما نزل على رسولنا الكريم _، فدفع حياته (في 12 شباط 1949) ثمناً لنشر الفكرة الإسلامية عالمياً والدفاع عنها - أحسن حينما أعطى ذلك التوصيف الدقيق لواقع الأمة فقال:«وقد علّمتنا التجارِب وعرّفتنا الحوادث أنّ داء هذه الأمم الشرقية متشعِّب المَناحي كثير الأعراض، قد نال من كلِّ مظاهر حياتها. فهي مصابة في ناحيتها السياسية: بالاستعمار من جانب أعدائها، والحزبية والخصومة والفُرقة والشتات من جانب أبنائها. وفي ناحيتها الاقتصادية: بانتشار الربا بين كل طبقاتها واستيلاء الشركات الأجنبية على مواردها وخيراتها. وهي مصابة من الناحية الفكرية: بالفوضى والمُروق والإلحاد يهدم عقائدها ويحطِّم المثُل العليا في نفوس أبنائها.وفي ناحيتها الاجتماعية:بالإباحية في عاداتها وأخلاقها والتحلُّل من عُقدة الفضائل الإنسانية التي ورثتها عن الغُرّ الميامين من أسلافها، وبالتقليد الغربي يسري في مناحي حياتها سَرَيان لُعاب الأفاعي فيسمِّم دماءها ويعكِّر صَفْوَ هنائها. وبالقوانين الوضعية التي لا تزجُرُ مجرماً ولا تؤدِّب معتدياً ولا تردّ ظالماً, ولا تُغني يوماً من الأيام غِناء القوانين السماوية التي وضعها خالق الخَلق ومالك المُلك وربّ النفوس وبارئها. وبفوضى في سياسة التعليم والتربية تَحول دون التوجيه الصحيح لنشئها ورجال مستقبلها وحمَلة أمانة النهوض بها. وفي ناحيتها النفسية بيأسٍ قاتل وخمولٍ مميت وجُبن فاضح وذِلّة حقيرة وخُنوثة فاشِيَة وشُحٍّ وأنانية تكفّ الأيدي عن البَذل وتقف حجاباً دون التضحية وتُخرج الأمة من صفوف المجاهدين إلى اللاهين اللاعبين...»!
تفضلوا وأَنقذوا البشرية!
فيا مَن جعلتم من تحقيق المدَنية هدفاً للحياة، لا وسيلة، تفضلوا وأخبرونا كيف ستقدِّم هذه المدَنية حلولاً تستنقذ الأمة ومِن ورائها البشرية مما هي فيه من تخلُّف إنساني مغرق في العبثية والهمجية والظلام؟ ونحن بدورنا نذكِّركم بأنّ العصور الذهبية للعلم والعمل وللتألق الحضاري الذي يخدم جميع أبعاد الإنسان الروحية والمادية ما كانت إلا في ظل العبودية الخالصة لله التي يترجمها الخطاب الديني الذي تُبغِضون... ذلك الخطاب الرباني الأصيل الذي تعهّدته وصانته الخلافة الإسلامية في قرون الخير.
وبعد، فإننا نسأل الأمة التي تعيش اليوم احتفالية ذكرى المولد المبارك:أليس من الوفاء لصاحب الذكرى أن نكون أُمناء على الرسالة التي بذل حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم تحقيقاً لها على أرض الواقع كما أنزلها الله لا كما يُراد لها، وحملاً لأمته على أخذها بقوة لقيادة البشرية بها، بدل تلك المظاهر الجوفاء التي تفرِّغ المناسبة من محتواها؟
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة