داعية، مسؤول فرع جمعية الاتحاد الإسلامي في البقاع وعضو هيئة علماء المسلمين في لبنان
لماذا الصحابةُ في دمشقَ أولاً؟ ( الصحابة في لبنان 2)
كتب بواسطة يوسف القادري
التاريخ:
فى : المقالات العامة
861 مشاهدة
ستكون سلسلتنا هذه «الصحابة في لبنان» نافذة إلى التاريخ المجهول المهمَّش، جُمِعتْ جزئياته الممتعة المدْهشة التي تُجيب على أسئلة كثيرة؛ منها: كيف وصل الإسلام إلى لبنان؟ هل دخل الصحابة والصحابيات إلى هذه الأرض؟ وما أسماؤهم؟ أين نامت التفاصيل الرائعة لتلك الحقبة المضيئة؟
تعرفنا في الحلقة السابقة إلى «استراتيجية فتوحات الصحابة» عموماً رضي الله عنهم. وحلقتنا هذه تحمل بِشارات ومفاجآت لأهل بلاد الشام ومُحبِّيها، وتُلقي الضوء على الدّافع لاختيارِ الصحابة رضي الله عنهم الشام خاصة، بدل إكمال فتوحات العراق والتوغل إلى ما وراءها شرقاً. ولماذا دمشق بالذات؟ تساؤل يتبادر إلى الذهن!
ولقد نَبَّه المفسِّرُ المؤرِّخُ الحافظُ ابنُ كثير الدمشقي إلى ذلك، فنصّ على ثلاثة أسباب صراحةً في بداية أحداث سنة 13هـ بموسوعته التاريخية «البداية والنهاية»، وأشار إلى سبب رابع في كتابه «التفسير» قائلاً:
«استهلَّتْ هذه السنةُ والصِّدِّيقُ عازمٌ على جمْع الجنود ليبعثهم إلى الشام، وذلك بعد مَرْجِعِه من الحج:
1. عَملاً بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أمرَ اللَّه تعَالى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا الْكُفَّار أَوَّلاً فَأَوَّلاً، الأَقْرَب فَالأَقْرب إِلَى حوْزَة الإِسْلام... فتجهَّزَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) لِغَزْوِ الرُّومِ أقْربِ النَّاسِ إِلى جزِيرة العَرَب، وَأَوْلَى النَّاس بِالدَّعْوَةِ إِلَى الإسلام: (تفسير ابن كثير).
2. وعَملاًبقوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).
3. واقتداءً برسول الله: فإنه (صلى الله عليه وسلم) جمع المسلمين لغزو الشام عام 9هـ التزاماً بهذه الآية ثُمَّ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّة (صلى الله عليه وسلم). وَقَامَ بِالأَمْرِ بَعْده وَزِيره وَصَدِيقه وَخَلِيفَته أَبُو بَكْر الصِّدِّيق.
4. وكَمَا أَخْبَرَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم): أرغم أبو بكر رضي الله عنه أنف كِسرى وقيصر ومن أطاعهما مِنْ العباد، وَأَنْفَقَ كنوزَهمَا فِي سَبِيل اللَّه (تفسير ابن كثير). ثم بَعَث [ قبل موته أسامة بن زيد رضي الله عنه ليغزو تُخوم الشام» (البداية والنهاية: 2:7).
وهذا السبب الذي لَمَّح إليه «إخبار الرسول (صلى الله عليه وسلم)» هو الذي سنركِّز عليه، فقد كان له دور كبير في اختيار الصحابة الكرام للشام.
· التوجيه القرآني: لقد رَبَّى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المؤمنين على تعاليم القرآن الذي كان له الدَّور الأساس في تعبئتهم التربوية والجهادية، فوجدوا آياته تقصّ عليهم ما جرى للأنبياء عليهم السلام في «الأرض المباركة» بلاد الشام التي تتكرر في آيات كثيرة؛ نحو قوله تعالى:
- (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (الأعراف:137).
- (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 71).
- (سُبْحَانََ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: 1).
فالقدس من أهم مدن الشام، بل عاصمتها الدينية وفيها المسجد الأقصى القِبلة الأُولى ومَسْرَى الرسول (صلى الله عليه وسلم).
والمبارك حول الأقصى كل بلاد «الشام» التي كانت ولاية من دولة الإسلام، ثم جزَّأها الأعداء بعد (سايكس– بيكو) دويلات: فلسطين وسوريا ولبنان والأردنّ (يُنظر «المَعالِم الأثيرة في السُّنة والسِّيرة» لشُرّاب).
· التوجيه النبوي: لقد صَحَّ عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) أكثر من 20 حديثاً في فضل الشام. وقد توصَّل د. بديع السيد اللحّام في بحثه النافع: «مكانة الشام ودمشق - قراءةٌ في الحديث النبوي» إلى أنه: «ورد في فضل الشام عامّة ودمشق خاصة من الأحاديث والآثار ما لم يَرِد في فضل مدينة أخرى من مدن الإسلام إذا استثنينا مكة المكرمة، والمدينة المنورة». وهذه جملة مِن الأحاديث:
1. تَكفَّل الله بالشام وأهله: عَن عبدِ اللهِ بنِ حَوَالَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): «سيصيرُ الأَمْرُ إلَى أَنْ تكونوا جنودًا مجنَّدَةً، جنْدٌ بِالشَّامِ، وَجُنْدٌ بِالْيمنِ، وَجُنْدٌ بِالعِراقِ» قَالَ ابنُ حَوالَةَ: خِرْ لِي يَا رسولَ اللهِ إنْ أدركْتُ ذَلِكَ!! فَقَالَ: «عليك بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إِليْها خِيرَتَهُ مِنْ عِبادِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتمْ فعليْكم بِيمنِكُمْ وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ، فَإِن اللهَ توَكَّل لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ» رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. والغُدُر: أحواض الماء.
2. وهي حِصْن المسلمين: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): «إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ. مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ» رواه أحمد وأبو داود. وفي رواية الحاكم: «خير منازِلِ المُسْلمين» وصحَّحه، ووافقه الذهبي. والفُسطاط هنا: الحِصْن.
3. الملائكة تحميها: عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عندَ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم): «طُوبَى لِلشَّاْم». فَقُلْنَا لأي ذَلكَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَالَ: «لأنَّ مَلائكةَ الرَّحْمن بَاسِطَةٌ أجْنحتها عليْها» رواه أحمد والتِّرمذي وقال: حَدِيثٌ حسن غرِيبٌ. وصححه ابن حِبان. وكلمة «طُوبى» بِوزْن بُشْرَى: أيْ حالَةٌ طيِّبة.
4. هي الأقلّ فساداً وبها الطائفة المنصورة: عَنْ معاوِية بْن قُرَّةَ عَنْ أبِيهِ رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلاَ خَيْرَ فِيكم. لا تزالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» رواه الترمذي وقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
5. مَن أقام بها بِنيّة الرِباط أُجِر: عن سَلمة بْن نُفَيْلٍ أنه أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: إِنِّي سَمَّنْتُ الْخَيْلَ وألْقيتُ السِّلاحَ ووضعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا؛ قلتُ: لا قتَالَ! فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم): «الآنَ جَاءَ الْقِتَالُ! لا تَزَالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّتي ظاهرينَ عَلَى النَّاسِ، يُزيغُ اللَّه قُلوبَ أَقْوَام فيُقاتلونَهمْ وَيَرزقهُمْ اللَّه منهم حتى يأْتي أَمْرُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وَهُم عَلَى ذلكَ. أَلا إِنَّ عُقْرَ دَارِ المؤمِنينَ الشَّامُ» رواه أحمد والنسائي بنحوه.
هذه بعض الأحاديث النبوية المرفوعة، وهناك آثار كثيرة موقوفة على الصحابة، حتى اعتبره الإمام الشَّعْرانيُّ عهداً نبويّاً فقال: (أُخِذَ علينا العهدُ العامُّ من رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) أَنْ نُرَغِّب إخواننا التجّار الذين يُسافرون إلى الشامِ أنْ يجعلوا مُعظم نيَّتهم امثتالَ أمرِ الشارعِ في سُكنى الشَّامِ - فيُثابوا على ذلك - دون التجارةِ). فكيف بنا نحن المقيمين بالشام؟! وقد جمع هذه الأحاديث عشرات العلماء كابن عساكر في «تاريخ دمشق»، وأفردوها بالتأليف؛ وهذه نماذج مما طُبِع منها: «ترغيب أهل الإسلام في سُكنى الشام» للعز ابن عبدالسلام، و«فضائل الشام» لابن رَجَب الحنبلي، و«الإعلام بسَنِّ الهجرة إلى الشام» لبرهان الدين البقاعي.
كلُّ هذا يفسِّر كثافة مشاركة الصحابة في معركة اليرموك (13هـ) التي اعتَرضت طريقهم إلى فتح الشام حيث «كان في ذلك الجمع ألف رجل من الصحابة منهم مائة من أهل بدر» (البداية والنهاية: 9:7).
· تَنبِيه: تَجدر الإشارة إلى أنّ فضائل الشام لا تعني أنّ الإقامة بها تُغني عن أداء الواجبات والأعمال الصالحات، بل هي بيئة صالحة مُعِينة على الخير، بعيدة عن الفتن وعذاب الله، لذا قال سلمان الفارسي رضي الله عنه حين أُلِحَّ عليه بالقدوم إلى الشام: «إنّ الأرضَ لا تقدِّس أحداً وإنما يقدِّس الإنسانَ عَمَلُه».
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن