الثورة العربية والشعار المبارك... الشعب يريد إسقاط النظام
نجحت كل الشعوب العربية التي رفعت شعار (الشعب يريد إسقاط النظام) في إسقاط الطاغوت وتحقيق أهم أهدافها وأولها، مع كون تلك الأنظمة تعد من الأنظمة الأشد استبدادًا وإجرامًا وقوةً في العالم العربي كتونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، بينما لم تنجح أي من الشعوب العربية الأخرى التي رفعت شعار (الشعب يريد إصلاح النظام) في تحقيق هدفها بالتغيير السلمي كما في الأردن والمغرب والعراق وعمان والكويت والمملكة العربية السعودية والجزائر الخ
ولا يحتاج الأمر إلى إثبات هذه الحقيقة التي هي كضوء الشمس في رائعة النهار، وإنما البحث هو في أسباب وأسرار هذه الظاهرة التي تجلّت بكل وضوح في الثورة العربية على اختلاف تجلّياته في كل بلد عربي!
فما هو السرّ في هذا الشعار والكلمة المباركة التي ما إن يرفعها الشعب حتى يتغير فجأة مسار الأمور رأسًا على عقب، ويحدث التحول الجذري لصالح التغيير الذي يريده الشعب؟!
بل إن الشعوب العربية تلك التي أسقطت أنظمتها الطاغوتية، اختلف حالها بين أول أمرها حين كانت ترفع شعارات الخبز والعمل والإصلاح، وآخر أمرها حين هتفت (الشعب يريد إسقاط النظام)، وكان الفرق بين الحالين، كالفرق بين الطائفتين!
فقد كانت في أول أمرها أشبه بمن يستجدي ويتوسل النظام بأن يمنَّ عليها بحقوقها، فكان زين العابدين يتهدّدها، وحسني لا يأبه لها، وعلي صالح يسخر بها، والقذافي يحتقرها، وبشار يتّهمها، حتى إذا كفرت بهم، وآمنت بحقها في الحرية والعدل والكرامة، وأعلنت عصيانها، فإذا الأرض تهتز تحت أقدام الطاغوت، وإذا الرعب يملأ قلبه، وإذا السماء تفتح أبوابها بالنصر للمستضعفين، فيربط الله على قلوبهم، ويثبت أقدامهم، فإذا هم يستقبلون الموت بصدور عارية، ليهب الله لهم الحياة وفق سننه الجارية، فالسعادة محرمة على الجبناء، واطلبوا الموت توهب لكم الحياة!
ولا شك بأن في الكلمة الأولى المباركة (الشعب يريد إسقاط النظام) من التأثير وإحداث التغيير ما يجب التوقف عنده ودراسته، ومعرفة الفروق بينها وبين الكلمة الثانية (الشعب يريد إصلاح النظام)، وهذه بعضها:
الفرق الأول: يتجلى في الكلمة المباركة والشعار الأول الكفر بالطاغوت بأوضح صوره، وهو الدعوة إلى إسقاطه، كما قال تعالى (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى)، فقد أوجب الله تعالى قبل الإيمان به الكفر بالطاغوت والأنداد الذين ينازعونه الربوبية والملك والحكم والطاعة، كما في قوله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به). قال ابن جرير الطبري في تفسيره: (الطاغوت كل ذي طغيان على الله، فعُبِد من دونه إما بقهر منه لِمن عبدَه، وإما بطاعة ممن عبده له، إنسانًا كان ذلك المعبود أو شيطانًا أو وثنًا أو صنمًا أو كائنًا ما كان من شيء) أهـ.
وفي لسان العرب في معنى قوله تعالى (يؤمنون بالجبت والطاغوت) وأنه طاعة الرؤساء والكبراء في غير طاعة الله (قال الأزهري: وهذا ليس خارجًا عما قال أهل اللغة، فإذا اتبعوا أمرهما، فقد أطاعوهما من دون الله، والطواغيت من طغى في الكفر وجاوز الحد، وهم عظماؤهم وكبراؤهم، والطاغية ملك الروم، والجبار العنيد، والظالم الذي لا يبالي ما أتى، يأكل الناس، ويقهرهم، لا يثنيه تحرج ولا فرق) أي لا يردعه عن قهر الناس وظلمهم خوف منهم ولا خشية من الإثم!
وقد أمر الله عز وجل بإسقاط الطاغوت وحزبه وقتالهم في قوله تعالى: (والذين كفروا يُقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إنّ كيدَ الشيطان كان ضعيفا)!
فهذه حقيقة قرآنية تؤكد بأن كيد الطاغوت وحزبه وأنصاره ضعيف! ولا يحتاج إسقاطه إلا إلى المفاصلة معه، والكفر به، والكفر باستحقاقه للطاعة والاتباع!
وليس حال من كفر بالطاغوت وقاومه ودعا إلى إسقاطه، كحال من دعا إلى إصلاحه ومداهنته ومحاباته!
الفرق الثاني: أن الكلمة الأولى والشعار المبارك فيه براءة صريحة من الظالم وظلمه، وهو ما أمر الله به كما في قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار)!
فحرّم الله جل جلاله مجرّد الركون والميل إلى الظالمين، دع عنك طاعتهم واتّباعهم ونصرتهم! وجعل الله جزاء الركون إليهم النار والعذاب في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا نار الطاغية الذين يسومهم سوء العذاب حيث يسلّطه الله عليهم حين اتخذوه ندًّا من دون الله يطيعونه ويتولّونه وهو يحكم بينهم بغير ما أنزل الله، بل ويُحبّونه ويوالونه ويقاتلون دونه، ويرفضون إسقاطه والكفر به، فيكون الجزاء لهم ناره في الدنيا، وجزاؤهم في الآخرة نار جهنم!
وهذا حال من يرفعون الشعار الثاني ففيه قبول بحكم الظالم، وركون إلى بقائه في السلطة، واعتراف به وبحقه في الطاعة، ولهذا يسلّطه الله عليهم، فلا يزيده ذلك إلا بغيًا وعدونًا واستكبارًا، ولا يزيدهم إلا ضعفًا وذلاً وخسارًا، كما قال تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يَكسِبون)!
فلما ظلم الطغاةُ شعوبَهم، وداهنتهم شعوبُهم على طغيانهم، ورضيت ببقائهم، واعترفت باستحقاقهم للطاعة والحكم، كان الجزاء العدل أن يولي الله بعضهم بعضًا في الدنيا والآخرة، فيشقى بعضهم ببعض في الدارين!
الفرق الثالث: أن بالكلمة الأولى والشعار المبارك يتحقق التمايز بين الحق والباطل، فالطاغوت ونظامه واستبداده وطغيانه كل ذلك باطل، والدعوة إلى إسقاطه وإبطال جوره وظلمه عدل وحق، فإذا تصدى الحق للباطل، وقام أهل الحق بنصرته، وتصدوا للباطل وحزبه، ظهر الحق وزهق الباطل، كما قال تعالى: (قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)!
وهذا بخلاف حال أصحاب الكلمة الثانية، فإنهم يخلطون حقهم في الدعوة للإصلاح بالباطل بإقرار نظام الطاغوت، والاعتراف بشرعيته، فلا يتحقق التمايز بين الحق والباطل، ولا بين أهل الحق وأهل الباطل، فلا يظهر الحق ولا يزهق الباطل!
فكان أصحاب الكلمة الأولى والشعار المبارك أحق بالنصر والظهور وفق سنن الله الاجتماعية التي لا تتخلف أبدًا، ولا تحابي أحدًا!
الفرق الرابع: أن أصحاب الكلمة الأولى أخذوا بسنن التغيير التي وعد الله بها (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم)!
بخلاف أصحاب الكلمة الثانية فإنهم يريدون الإصلاح دون حدوث التغيير، فلا يتحقق التغيير مع بقاء الطاغوت ونظامه وحكمه، ومع بقاء الملأ المترفين على ما هم عليهم من ترف وبطر، بل يصدق فيهم قوله تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أَمَرْنا مُترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ فدمّرناها تدميرًا)!
الفرق الخامس: أن من يرفعون الشعار الأول (الشعب يريد إسقاط النظام)، أخذوا بأهمّ أسباب الظفر، وهو الانتصار ممن بغى عليهم، كما قال تعالى في صفات أهل الإيمان: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون... ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق)، (ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله)!
وقد وعد الله المظلوم بالنصر في الدنيا بشرط أن ينتصر لنفسه ممن بغى عليه، فإن رضي بالظلم وقبل به، ولم يأخذ بالأسباب، فقد تخلى عن حقه، وعن وعد الله بنصره!
فمن يرفعون شعار (الإصلاح) لا (الإسقاط) تخلّوا عن حقهم في القصاص ممن سفك دماءهم، واستحل أخذ أموالهم، وحبس حرياتهم، وانتهك أعراضهم، وتركوا حقهم عجزًا منهم وضعفًا لا عفوًا وصفحًا، فكانوا أقل حظًا بالنصر والظفر، إن لم يحدث لهم العكس، ويرتد النظام عليهم وينتكس!
فهذه بعض الأسباب لهذه الظاهرة السياسية الاجتماعية، أما ما وراء ذلك من الأسرار، التي تحول بين بعض الشعوب العربية ورفع شعار (الشعب يريد إسقاط النظام)، وسبب خوفهم الذي يأخذ بمجاميع قلوبهم، والأوهام التي تسيطر كالسحر في تأثيرها عليهم، فهذا ما سأحاول كشفه في المقال القادم (الثورة العربية وسحر الأنظمة الملكية)!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة