كش ملك
أنتجت الثورة أبطالها الذين ساهموا في إنتاجها أيضا، وشهداءها الذين صارت أرواحهم روحاً لها.. أنتجت مبدعيها، أدباءها, أقلامها المبدعة وريشتها الساخرة.. ومصوريها الذين كانوا أعيناً تنقل للعالم ما يدور.. ومبدعي لافتاتها الذين صاغوا بعبارات موجزة نبضها ونسغها… أنتجت جنوداً مجهولين، أبدعوا بصمت دون أن يلمعهم بريق الأضواء.. دون حتى إمكانية أن يكون ذلك قد جاء في أذهانهم.. أنتجت حرائر أشجع من كل الرجال.. وأنتجت رجالاً، بمعنى جديد وأصيل للرجولة.. أنتجت متحدثيها، وإعلامييها، ومشايخها الخاصين بها، ومثقفيها.. أنتجت ثواراً ولدوا عبرها، ومرضى شفوا بها من كل أمراضهم السابقة، وأشخاصاً أعادت الثورة صياغتهم وتركيبهم.. أنتجت الثورة أشخاصاً كانوا كأنهم لم يولدوا قبلها، لم يكونوا قبلها …
وأنتجت الثورة أبراجها العاجية كما دركها الأسفل، منظّرين من فوق يتعالون على كل شيء ومرضى ينكرون أي فكر وفكرة لا يمكن إنكار وجودهم.. أنتجت من يتسلق عليها، وأنتجت من يقدّمون أرواحهم لها كي ترتفع.. أنتجت قيماً جديدة، وأعادت إحياء قيم أصيلة.. حطّمت أوهاماً وأساطير وأوثاناً.. حطمت جدار الخوف الذي كان يحجب السماء عن الأنظار.. كل ذلك، وأكثر، أنتجته الثورة.. لكنها لا تزال بانتظار نتاجها الحاسم.. لا تزال بانتظار أن يكون لها "قائدها"...
ما كان نقطة قوة بداية الثورة، من عدم وجود قائد، ومن كون الثورة تياراً شعبياً ملامحه تتكون من انصهار ملامح الجميع، هذا لم يعد نقطة قوة الآن.. أو على الأقل لم يعد بنفس القوة.. صار لزاماً على الثورة أن يكون لها قائدها، أو هيئة لقيادتها، صار لزاماً أن يكون لها وجهها الذي ترى الجماهير أنه يعبر عنها، لن يكون “القائد المفدى” أو “بأبي أنت وأمي”.. لكنه سيكون “قائداً” من الجماهير وللجماهير.. الكثير من عوائق الثورة -أو وعكاتها الصحية- يمكن أن تذوب تدريجياً، أو يقل تأثيرها، أو تتجاوز، عندما يكون هناك هذا القائد.. بل إن عوائق ظهور هذا القائد، هي من عوائق الثورة أصلاً (المناطقية، الشك الذي زرعه النظام في النفوس، الخوف من أن يكون كل قائد ديكتاتوراً آخر، وهو إرث يبدو بعثياً بامتياز، إذ أنه موجود “نسخة طبق الأصل” في العراق)..
لا بد لهذا القائد أن يظهر من قلب الواقع… من الداخل.. ليس المهدي، وليس المخلص، وليس الوهم الذي ننتظره ليحقق المعجزات.. بل القائد الطبيعي الذي تحتاجه كل الثورات.. بل كل الحركات والتيارات الاجتماعية.. إنه ليس الأوحد الملهم الذي لم تلد سواه “الولاّدات”.. بل هو قائد من بين قادة آخرين، يبرز أكثر من سواه في مرحلة مفصلية مهمة.. وقد يكون هناك سواه في مرحلة أخرى.
إنه صلاح الدين الدولة الأيوبية، عُرابي الثورة المصرية، عمر المختار جهاد ليبيا، عبد الكريم الخطابي الجهاد المغاربي، لينكولن الثورة الأمريكية، دنتون الثورة الفرنسية، ديغول حرب التحرير، ماو الثورة الصينية، غاندي استقلال الهند، لينين الثورة البلشفية.. ليس مهماً تقييمنا لهؤلاء الأشخاص أو للثورات التي كانوا جزءاً منها، المهم هو أن وجود “قائد” كان من مشتركات هذه الثورات، كان من السنن التي لا معنى في “محاربتها” أو تجاهلها.. هذا القائد ليس “مَلكاً على رقعة شطرنج” الذي ستنتهي اللعبة بموته. فالملك هنا هو الشعب المحصّن ضد الموت… لكنه يمكن أن يكون “الوزير” الذي ندرك أن الفوز صعب دون "صلاحياته وإمكاناته".
“وهل نحن بيادق يا دكتور؟..” لا. لسنا “أحجاراً على رقعة شطرنج”.. ليس بعد الآن.. لكن استراتيجيات الشطرنج مهمة لفهم سنن النصر.. آن لنا أن نقول لمخاوفنا من ظهور القائد وسلبياتها، أن نقول لكل العوائق التي تحول دون ظهوره.. “كش مات!”..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة