هل تأخر النصر؟
قيل لأحد الأباة: “ما فائدة سعيك غير جلب الشقاء على نفسك؟”. فقال: “ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظالمين”.
أستفتح مقالي بهذه العبارة التي نقلها الكواكبي، وأنا هُنا لا أُنظّر لأهل الإباء في سورية وأنا مُتكئ في مكان لا يعلمه أحد!
أنا أُشارك ذلك النَّفسَ الحرّ ليس أكثر، أسلُو بإخواني وأُسلّيهم، وأنا أرقُب حالاً أفضل لهم، كما ترقُب بقية الشعوب العربية والإسلامية.
ولأن تنغيص حياة الظالمين يُدفَعُ له ثمنٌ باهظ، ولأن الحقوق تُنتَزعُ ولا تُوهب، ولأن الحرية والعدل تُرخص من أجلها الحياة، ولأن أنصاف الثورات مجزرةٌ للشعوب، قام إخواننا السوريين على رئيسهم الغاشم، الذي طالما قمعهم وقيّدهم، واندفعوا يبذلون كلّ شيء، ولم يُتوقّع في أي دولة عربية ثارت أن تقوم ثورتها بعد أسبوع من قبل الثورة، وهذه عادة الثورات، إذ تُعبّؤ ثمّ تنتفض، وكما أن لحظة الانفجار الذي ولّده الكبت لا يتكهنُها أحد، فلحظة الانتصار بعد الانفجار لا يتنبؤ بها على وجه التحديد أحد، وهذه عادة الثورات والملمّات، ألم ترَ إلى قدوتنا الأول صلى الله عليه وسلّم إذ تَنزّل عليه في غزوة الأحزاب قول الله تعالى: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً). فما أشبه الليلة بالبارحة، حينما عظُم الخطبُ واشتدّ الكَرب، وأطبقت القبائل على المدينة، وبلغت القلوب الحناجر، جاء النصر من عند الله، جاء في أثناء لم يحزرها أحد، إلا المؤمنون الصادقون الذين كانوا على أتمّ ثقة بنصر الله وفتحه، وإن رأيت بداية الآيات لقرأت: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراً)، إذ يستفتحُ الله النتيجة قبل المحنة، ويروي الفوز قبل الهزيمة، ويُرينا النور قبل أن يُشير إلى الامتحان.
أتذكرون حكاية الخندق، يوم أن ضرب النبي صلى الله عليه وسلّم الصخرة التي استعصت على التّفَتُت، ووعد المسلمين بسواري كِسرى، مثل هذا الإيمان هو الذي يصنع النصر، ومثل هذا التفاؤل هو الذي يُبدد الظلم، والذي أراه كما يراه غيري ما فعل الإيمان بالمبدأ والتضحية والبذل من أجل العقيدة هُناك، حيث الأراضي السورية، وأجدُني أُتمتم (الشكر لله على أن سوريا لهؤلاء السوريين).
تضيق الأزمة لتنفرج، وكلّما ازداد ضيقُها كلّما قرُب انفراجها، ولا يغلب عُسر يسريَيْن، قال الشاعر:
ضاقت، فلمّا استحكمت حلقاتها *** فُرجتْ، وكنتُ أظنها لا تُفرج
وإن ماحدث في الثورات العربية الحديثة في طلب الكرامة لهو الاستثناء التاريخي، إذ الأصل في المطالب الشعبية امتداد الوقت وطول الزمن، والتاريخ السوري تاريخٌ مليء بالعز والإباء، كالأسد حينما يستكين لينتفض، ألم يُفني حافظَ حَماة، ألم يقل أحمد شوقي قصيدته “دمشق”، وفيها:
وَلِـلـحُــرِّيَّــةِ الــحَــمـــراءِ بـابٌ *** بِـكُلِّ يَدٍ مُـضَــرَّجَـةٍ يُـدَقُّ
جَزاكُــــــــمْ ذو الجَلالِ بَني دِمَشـــقٍ *** وَعِزُّ الشَرقِ أَوَّلُـــــهُ دِمَشقُ
ألم تُمضِ الجزائر ثمان سنين ١٤٥٤-١٤٦٢م في ثورتها ضد الاستعمار الفرنسي، وصارت بلد المليون شهيد؟ وزادت مُدة ثوراتها كلها عن مئة وثلاثين سنة؟
ألم تمضِ الثورة الانجليزية عشرين سنة؟
ألم تدُم الثورة الفرنسية أزيَدَ من عشر سنين؟
واُخترعت المقصلة آنذاك من أجل قتل الناس، وسمّيت على مخترعها جيلوتين، وبلغ عدد قتلاها ثلاثون ألف شخص، ثم صارت المقصلة شعار الثورة؟
إن الثورة الرومانية هي ختام الثورات الأوروبية، وكانت ضد تشاوتشيسكو، خلّفت أكثر من ألف قتيل، ودامت ثمانية أيام وهي أفضل حال الثورات الأوروبية.
كما فعلت الثورة الاندونيسية على سوهارتو.
بل وحتى ما تُدعى الثورة المخملية بشيكوسلوفاكيا ١٩٨٩م.
وسَرْدُ مثل هذه الثورات يطول، إذ أن كلّ الثورات العربية التي قامت قريباً باستثناء ليبيا وسورية طبعاً بالقياس أعلاه هي ثورات مُخملية، لما درج في أوضاع الثورات من عادة سفك الدماء أزيَدَ منها حاليّاً، واضطراب الموازين، وعندها تنفك مقاييس الأرض لمقاييس السماء.
وتأمل كيف خلّفت هذه الثورات من رخاء ونعيم لذُرياتهم، وحرياتٍ لأجيالهم وهذه أكبر مكسب كما قالت كاميليا بولات في تحسُّرها على عدم مُشاركاتها في ثورة بلدها الرومانية، وتحسّر مثلُها كثير في بُلدان أُخرى.
آمن الشعب السوري فأقدَم من أجل الله -عز وجلّ- ومن أجل وطنه وضمان مستقبل أبناءه، ولذاك أُوقِنُ باستمرار بذلهم وعطائهم، واسترخاصهم للغالي ولأرواحهم، وإما النصر أو الشهادة، ولسان حالهم يقول: لو خافَ الطائرُ الذّبح، ما حام حول القمح.
وهكذا تبلغ لحظةٌ يحتدم فيها الحق والباطل، حتى إذا استيأس الناس وظنّوا أنهم قد غُلبوا جاءهم نصر الله، فيَدمغُ الحقَّ الباطل فإذا هو زاهق، ويبقى الله عند حسن ظن عبيده به، مثلما بقاء السوريين في النضال والإباء وحسن الظنّ بالله.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن