الثمن
بعد يوم عمل شاق متواصل، اتكأ الدكتور عادل على أريكته وبدأ يستعرض أحداث يومه، كم أدهشته وأثارت انتباهه عملية اليوم...
كيف تغير لون الساق المبتورة خلال دقائق وتوشّح بالسواد؟تساؤلات ازدحم بها فكره الطبّي بسبب ما يملك من قلب رقيق!!
حلَق الدكتور في عالمه وفكره محاولاً تذكر عمليات بتر أخرى قام بها في أزمنة متفاوتة، لكنه لم يذكر شيئاً قط يشبه ما حدث معه اليوم.حاول أن يتذكر تقرير هذا المريض!!
العمر: سبعٌ وستون عاماً.
الضغط: مرتفع، السكري: مرتفع.
الاسم: فهمي أسعد.لقد حفظت عن ظهر قلب هذا الاسم، ليس عليَ بغريب، ترى من يكون صاحبه؟
أهو زميل قديم؟ لا، فعمره أكبر بكثير من أعمار جميع زملائي.
أهو أحد أساتذتي في المدرسة؟... وبدا يذكر أسماء أساتذته... فقال: لا.. لا أظن.
ولكن من هو صاحب هذا الاسم؟
أجهد فكره واستقدم من ذاكرته عدة أسماء ووجوه لأناس كان لهم حضور قديم في حياته... فلم يكن فهمي أسعد واحداً منهم، لكن الدكتور عادل يكاد يجزم أنه كان لهذا الاسم أثر ما في حياته.
فذهب في صباح اليوم التالي إلى حيث يرقد فهمي أسعد فرآه نائماً، تأمل وجهه ملياً. القسمات ليست عليّ بغريبة... تجاعيد الوجه والجبين تكاد تقول شيئاً.تقلّب المريض في فراشه ونطق بصوتﹴ ضعيف: آه...
أصغى الدكتور عادل لهذه الــ (آه) وكأنها حملته إلى أودية سحيقة من الذكريات...
تجمعت خيوط ذاكرته ونسجت صورة تقريبية لصاحب هذا الاسم...وعلت الدهشة وجه الدكتور عادل عندما تصفح ملف المريض وعلم أنه قدَم التماساً لصندوق الفقراء.لكن فهمي أسعد الذي تصوره رجلاً ثريّاً ذا مال وعيال.. ترى: إنه هو.. أم شخص آخر؟؟
ترك الدكتور عادل غرفة المريض وهو أشد ما يكون حيرة، وفي صدره جاذبية ما نحو ذاك المريض. وبعد ساعات عاد إلى فهمي أسعد هذان نظر إليه وسمع صوته، ثم وضع الطبيب يده على رأسه، وقال لنفسه: سبحان الله.. إنه هو. لكنه كتم مشاعره واقترب من مريضه وقال برفق:- كيف حالك يا عم؟
رفع السيد فهمي عينيه إلى وجه الطبيب ونظر نظرات حزينة وقال بصوت واهﹴ:- بخير إن شاء اللهثم أردف: أشكرك على اهتمامك بي يا حضرة الدكتور...
فأكمل الطبيب: الدكتور عادل الأحمد. أتذكرني يا عم؟
كرر المريض اسم الدكتور... ثم قال:- أنت تعرف يا بني أنني رجل كبير، وقد مرت عليّ أمور كثيرة، اعذرني يا بني يبدو أنني نسيتك...
ثم تنهد بأسى وقال وكأنه يخاطب نفسه:- كما نسيني الأهل والأولاد والأصدقاء...
فصوّب الدكتور نظره نحو الباب وقال مداعباً: حاول، حاول أن تذكرني، وسوف أعود لك بعد الانتهاء من عملي إن شاء الله.
لحظات مرّت والمريض فهمي أسعد يتقلب في فراشه ويقلِب أمره... ثم حاول أن يوقف تدفق الصور أمام ناظريه، وضبط ذاكرته على صورة عادل الأحمد!... ربما يكون هو... الفتى الوسيم المستقيم اليتيم الذي...وطأطأ رأسه... ماذا يذكر...
إنها صور خجلى تأبى الظهور لماضﹴ كان يظنه سعيداً مثمراً نافعاً ولكن..!!ا
جتاحت السيد فهمي موجات من الندم والألم والتوجُع والتَفجُع، كما اجتاحت الدكتور عادل موجات من الذكريات المؤلمة والأسف والأسى على ذلك المريض.لكنه لم ينس شكر الله والثناء عليه.
إن لتلك القدم المبتورة مواقف لا يمكن أن ينساها، فقد كان السيد فهمي صاحب حانوت تجاري كبير في وسط حي شعبي فقير.. يوم أن مات والد الفتى عادل الذي اضطر للعمل معه في حانوته بعد أن رفضه أرباب الأعمال الأخرى لحداثة سنه وضعف بنيته وقلّة خبراته في الحياة كما كانوا يصفونه..
وما هي إلا أيامٌ معدودات حتى أيقن الفتى عادل أن السيد فهمي يتعمد بيع بعض السِلع عشاءً كي يلعب بالميزان وذلك بوضع قدمه في موقع دقيق محدد، وإشغال المشتري ببعض الأحاديث الجانبية.واحتار الفتى عادل كيف يصوب السيد فهمي فطلب منه أن يبيع هو تلك السلع... فرفض رفضاً قاطعاً.
وكان يوم انفجار السيد فهمي عندما قال له الفتى عادل: إن أستاذنا اليوم قد علّمنا معنى الآية الكريمة:﴿ويلٌ للمطفِفين...﴾، فأجابه السيد فهمي ساخراً:- قل يا عالم العلماء.
- سأنقل لك ما درست... وبدأ يقرأ بحماسة وبصوت طفولي بريء: الويل: وادﹴ في جهنم يخرّ به الفاجر سبعين خريفاً. والمطفِفون: الذين يأخذون من الناس شيئاً طفيفاً.
بدا السيد فهمي مصغياً لكنه استشاط غضباً ولمعت عيناه بشررﹴ متطاير وارتجفت عضلاته المفتولة وشاربه المفتول عندما سمع الفتى عادل يقرأ:... وأخذ الشَيء الطفيف خسّةٌ في النفس بل في منتهى الخسّة، فهل لمثل هذه النفوس أن تتحمل تبعية عقيدة عظيمة ودعوة كريمة، و...ففاجأه السيد فهمي صارخاً بصوت جنوني:- كفى أرجوك، أنت تقرأ الآن في الكتب ولا تعرف ماذا يدور في واقع الناس والمجتمع.. كيف سأدفع الضرائب؟ كيف سأسدد الفواتير المتراكمة؟ ومن أين أطعم العيال يا أبله... بل قل إن متّ وتركتهم أأتركهم فقراء يستجدون الناس؟ و.. وخشي الفتى عادل أن ينقضّ عليه هذا المارد انقضاض الأسد على فريسته، لكن هذا الأسد الهصور تمالك نفسه وأردف قائلاً:- اسمع أيها الصعلوك الصغير، اعمل ما هو مطلوب منك وكفى ولا أريد أن أسمع هراءك مرة أخرى، مفهوم؟ ثم.. إنك تعرف أنني لم أرض بك إلا شفقةً عليك وعلى أمك المسكينة، فإن كان بإمكانك استجداء غيري فافعل، واذهب مع السلامة..
- واغرورقت عينا الفتى عادل بالدموع، عندما سمع وصف أمه العظيمة بأنها مسكينة تستحق الشفقة، فانسحب بهدوء من الحانوت قائلاً: شكراً لك يا عم على مشاعرك النبيلة!!***
ثم نهض الدكتور عادل من مكانه شاكراً حامداً واتجه نحو محاسب المستشفى وطلب منه تسديد فاتورة السيد فهمي، وكلُ ذرة في كيانه تردد الآية الكريمة:﴿ويلٌ للمطفِفين﴾.
أما السيد فهمي فقد أسرته ثورة مشاعره، فتلاشى داخل نفسه وعلم أنه كدح على رصيف الحياة!!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن