إخصائية تغذية وكاتبة اجتماعية ومهتمة بقضايا الشابات
شباب الدعوة... والإعلام المضاد!!
عندما كنا نجلس مع كبار السن في العائلة، في أيام ما قبل الثورات العربية، وتمرّ تواريخ النكسة والنكبة ومجزرة صبرا وشاتيلا، كانوا يقولون لنا: أنتم محظوظون! لقد انتهت أيام الاستبداد والمذابح الجماعية، الآن الإعلام موجود بقوة ويفضح كل شيء، ولم تعد أي دولة قادرة على التصرف بعنجهية تجاه مواطنيها لأن الإعلام سوف يفضحها..
ويمر شريط الأحداث سريعاً ليثبت نقيض الكلام أعلاه. فتقوم الثورات العربية، وثورات ضد الثورات، ويشتعل فتيل الحروب الأهلية ما بين هذه وتلك، ويتم تصفية الناس بالألوف في كل قرية ومدينة، وتهجير الملايين، بينما أثبت رؤساء الدول ليس فقط أنهم لا يخشون الإعلام أو يهابونه، بل ويجعلونه سلاحاً ماضياً في طريقهم، يشقون به خصومهم ويمزقونهم به ألف ممزق. وبرزت مصطلحات جديدة على الشاشة اسمها الفوتوشوب، والتركيب، والتزوير والتلفيق، وبثوها بغزارة في وجه أي شخص يدعي أنه ينشر أشياء تكشف حقائقهم، مما جعل من أمر تصديق أي شيء يُنشر عنهم مستحيلاً، فحاربوا السلاح بنفس السلاح، وزرعوا في النفوس حيرة وبلبلة لم تعد تريهم موطئ أقدامهم.
وحدهم الذين يملكون النظرة الثاقبة والقراءة المتأنية لما يحدث يستطيعون أن يميزوا الحق من الباطل. وهؤلاء من شبابنا كثر والحمد لله، لكنهم وقعوا في خطأ آخر. وعن هذا يأتي لب المقال:
فنجد من شبابنا وشاباتنا، الذين نحسبهم على خير، مشاريع دعاة صغيرة متحمسة لنشر الحق وتبليغ دعوة الخير إلى الناس أجمع، وبلغ من حماستهم أنهم لا يسكتون على خطأ أو يجاملون منكراً، حتى ولو صدر هذا الخطأ من أكثر الرموز احتراماً وتديناً. وقد وضعوا عدة شعارات تزين مسيرتهم، منها ما جاء في قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". ومنها ما جاء في قول من لم ينطق عن الهوى: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، فقال رجل: يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره». صحيح، أخرجه الإمام البخاري في صحيحه والإمام أحمد في مسنده والإمام الترمذي في سننه وغيرهم.
وإنهم إذ يضعون هذه الإرشادات المضيئة نبراساً لهم ينير طريقهم الذي عاهدوا أنفسهم عليه، إلا أنهم وقعوا في عدة أخطاء أدت بوجه أو بآخر إلى تعزيز البلبلة والحيرة في الأوساط والمجتمعات، وذلك بالتالي:
- يركز هؤلاء الشباب على مساوئ وأخطاء النظم البديلة سواء الإسلامية أو غيرها، فيفردون لها المواضيع والحلقات الكاملة، ويغضون الطرف عن محاسنها، ولو ذُكرت فإنها تُذكر بشكل هزيل لا يساوي عشر القوة النفسية التي طُرحت بها هذه الأخطاء، مما يجعل كل شخص يحفظ أخطاء هذه الأنظمة ولا يعرف شيئاً عن محاسنها. والسؤال الذي يخطر ببال أي شخص يقرأ مقالة نقد من فصيل تجاه نفس الفصيل، وهنا نخص بالذكر نقد الداعية الإسلامي لنظام الدولة الإسلامي، فإنه يقول: إذا كان أبناؤهم انقلبوا عليهم ولم يجدوا أن ما يقدمونه كافياً، فلماذا نُعجب بهم نحن؟ إذن هم لا يستحقون البقاء!
- غاب عن كثير من هؤلاء الشباب أن أصل النصح يكون في السر لا في العلن، فإن عُدِمتْ أسباب النصح في السر (وهم في العادة لا يجربون أن يطرقوا أي أسلوب سري)، فإن النصح في العلانية وقتها يكون بين رهط يقدر قيمة هذه النصيحة، وليس أمام من هبّ ودبّ، ومن يمكنه ببساطة أن يستغل هذه النصيحة أبشع استغلال فيحولها عن مسارها إلى مسار مضاد تماماً.
- الكثير من هذه النصائح فيها حظ نفوس. فكأنهم يقولون لمن حولهم: انظروا إليّ وأنا لا أرضى بباطل حتى ولو كان من شخص انتخبته ووضعت فيه ثقتي!
- لو وضعنا في الاعتبار أن الكثير من الأمور التي يتمّ النصح فيها هي أمور لم تثبت أصلاً، بل سمع عنها من وسائل الإعلام المختلفة أو فُسرت من بعض الناس الحاسدة أو المصابة بمرض الغيرة، وبدلاً من أن يتأكد في البداية فإنه يسارع إلى كتابة الانتقاد اللاذع أو ما يسميه هو النصح، فإنه بذلك يساهم في نشر إشاعات كان من الأفضل لها أن تبقى في مهدها، وكفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكل ما سمع.
النتيجة التي وقع فيها هؤلاء الشباب بتسرعهم رغم نواياهم الطيبة هي: أنهم كانوا سلاحاً خاصاً، عوّق به الأنظمة السابقة عن تحقيق كل ما طمعت به النفوس وأمّلت من تغيير نحو الأفضل وعدالة مفقودة وحريات مقيدة وكرامات مهدورة.
وإذ تعيش أمتنا الآن مخاضاً صعباً، أتمنى لهؤلاء الشباب والفتيات المتحمسين أن يعيدوا النظر في أسلوبهم الدعوي فيما لو كتب الله لهذه الأنظمة الإسلامية الفتيّة الحرة العودة مرة أخرى بينما نحن ما نزال على قيد الحياة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة