يا باغيَ الخير أَقبِل
رمضانُ يا تاجَ الشهورِ وزينتها، يا ربيعَ القلوب وحياتها، يا هدية ربي من السماء، معطّرةً برياحين الجنان هبت على القلوب نفحاتُها ونسماتها، لتبشرَ المنقطعين بالوصل، والمذنبين بالعفو والصفح، والمستوجبين النار بالمغفرة والعتق.
رمضان يا حبيب الرحمن، ياشهر الصيام والقيام والقرآن، يا شهر الخير والبركة والإحسان، أقبل يا سراج الصالحين، وكنز المتقين، وتلاوات الخاشعين، وبكاء المنيبين، ودعاء المحبين. أقبل وأقم طويلاً بيننا؛ فقد أثقلتْ كواهلَنا ذنوبُنا ومعاصينا، أقبل ولا تفارقْنا حتى تُزكّيَ أرواحنا وتُصفّيَ قلوبنا وتهذّبَ نفوسنا وتجدّدَ حياتنا وتَسقيَها مودةً ومحبة وتسامحاً وإخاء.
رمضانُ يا شهر التقى والهدى، والطهرِ والندى، يا مَن فُتحت بقدومك أبوابُ الجنان، وغُلّقَتْ أبوابُ النيران وصُفّدت الشياطين والجانّ. مرحباً بك يا شهراً فرح النبي صلى الله عليه وسلّم بحلوله وبشَّر أصحابه به ليتسابقوا إلى الطاعات والقربات، ومضاعفة الحسنات، والفوز بالجنات. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أتاكم رمضانُ شهرٌ مبارك فرض الله عليكم صيامَه، تُفتح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطين، لله فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر، مَنْ حُرم خيرَها فقد حُرم" رواه النسائي. وفي حديث آخر: "... وينادي منادٍ: يا باغيَ الخيرِ أَقبِلْ، ويا باغيَ الشر أَقْصر، ولله عتقاءُ من النار وذلك في كل ليلة" رواه الترمذي.
رمضانُ مَنْ صام نهارَه وقام ليلَه غُفر له ما تقدم من ذنبه، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلّم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه" رواه أحمد في مسنده، ويقول صلى الله عليه وسلّم أيضاً: "من قام رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه" رواه أحمد في مسنده. فيا باغيَ الخير أَقْبِل، هذا موسمُ التجارة الرابحة والفرصة السانحة، هذا شهر التيقُّظ، هذا شهر الجِدّ والزرع، فمن رُحم في هذا الشهر فهو المرحوم، ومن حُرم من خيراته فهو المحروم، ومن لم يتزوّد لمعاده فهو الخاسر المَلوم.
رمضانُ ما أزهرَ أيامه، وما أبرك ساعاته، وما أجلّ طاعاته، وما أحلى لياليه المشرقة بالتراويح والتسابيح والمناجاة، وربُّ العزة يسمع الدعاء ويدّخر الأجرَ والثواب لمن وقف على الباب؛ وقد ورد في الحديث القدسي: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصيام فإنه لي وأنا أَجْزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفثْ ولا يصخبْ، فإن سابّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم. والذي نفسُ محمّدٍ بيده لخَلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتانِ يفرحهما: إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه" رواه البخاري. ويكفي الصائمين شرفاً أن بشرهم نبيهم صلى الله عليه وسلّم بدخول الجنة من باب الريّان؛ يقول صلى الله عليه وسلّم: "إن في الجنة باباً يُقال له الريّان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، فإذا دخل آخرهم أُغلق فلم يدخل منه أحد" رواه البخاري.
فيا باغيَ الخير أَقبِلْ، هذا شهر التنافس والتسابق، والحسرة كل الحسرة لمن ضيع أيام رمضان ولم يُغفرْ له. يقول صلى الله عليه وسلّم: "...ورَغِمَ أنف رجلٍ دخل عليه رمضانُ فانسلخ قبل أن يُغفر له" رواه أحمد في مسنده.
يقول الحسن البصري رضي الله عنه: إن الله جعل رمضانَ مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلّف أقوام فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون.
فيا باغيَ الخير أقبل، وليَكُنْ صومُك في رمضان ليس مجرّد الإمساك عن الطعام والشراب، ولكنْ صوماً بالجوارح والأركان عن المعاصي والآثام، وصون اللسان عن الفُحش والغيبة والنميمة واللغو والبُهتان، وغض البصر عن الحرام، ومنع الأقدام عن قبيح الإقدام، فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوعُ والعطش، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهرُ والتعب والنَّصَب.. يقول صلى الله عليه وسلّم: "من لم يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَه وشرابه" رواه البخاري. لله دَرّ سلفنا الصالح: اشترَوْا خلاصهم وعِتْقَهم في هذا الشهر المبارك، كانوا يستقبلون رمضان وليس في قلبِ أحدٍ منهم مثقالُ ذَرةٍ من حِقْدٍ على أخيه المسلم.. وكانوا يدعون الله ستةَ أشهرٍ أن يبلّغَهم رمضان، ثم يدعونه ستةً أُخرى أن يتقبله منهم. وكان من دعائهم: "اللهم سلّمني لرمضان وسلّم لي رمضان، مَنْ هذا المقبولُ مِنّا فنُهَنّيه؟ ومن هذا المردودُ منا فنُعَزّيه؟ أيها المقبول هنيئاً لك، ويا أيها المردود جبر الله مصيبتك.. أما مجالسهم فما أعطرها وما أزكاها، كانت مجالس ذكر وقرآن وقيام ودعاء وبكاء. كان الواحد منهم يختم القرآن كلَّ ثلاثةِ أيامٍ مرة، وكان الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه إذا دخل رمضان ترك مجالس العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان الإمام الشافعي يختم القرآن ستين مرة، كما كانوا يتعاهدون في رمضان الفقراء والمحتاجين والمساكين بالصدقات وإطعام الطعام وإفطار الصُّوّام اقتداءً بنبيّهم صلى الله عليه وسلّم، فقد كان أجودَ الناس، وأكرم الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان أجودَ بالخير من الريح المرسَلة. وكان ابن عمرَ رضي الله عنهما لا يُفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وكان يتصدق كثيراً ويقول: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون". فما أحوجَنا أن نرحمَ البائسين ونُحْسن إلى المحتاجين، فكم من حسنة غفر الله بها الذنوب، وكم من صدقة ستر الله بها العيوب!
وكان السلف الصالح والأخيار المتقون يجتهدون في العشر الأواخر في رمضان أُسْوَةً بسيّد الأنام؛ فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا دخل العشرُ شَدّ مِئْزره وأحيا ليله وأيقظ أهله".
لنستقبلْ رمضان بِهِمَمِ المحبينَ واستغفار التائبينَ وأنينِ المذنبينَ وانكسارِ الخائفينَ، وعَبَراتِ الخاشعين، ولْنعلمْ أن للصائمِ عند فِطره دعوةٌ لا تُرَدّ؛ يقول صلى الله عليه وسلّم: "ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر" رواه الطبراني.
فطوبى لمن أجاب نداء الله (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون):
فطوبى لمن أمسى وأصبح همُّه يســارع في الرضــوانِ، لله يَرْهَبُ
هنيئـاً لمن كـان القَبـولُ أنيسَـهُ وتعسـاً لمحرومٍ من الخيرِ يَنْضَبُ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن