غيرة البنات
كم من موقف طريف حمل بين طيّاته مشاعر الغيرة بين الأخوات؟ وكم من نظرة أرسلت إشارات ملؤها المعاناة من نفس المشاعر؟ وكم وكم من التصرفات التي تخفي أو تعلن عن هذا الخلق؟ ولكن رغم كل ذلك فإنه من الطبيعي أن تحصل الغيرة بين البنات الصغيرات في المنزل، لأن من فطرة الإنسان البحث عن الأفضل والاستئثار به لنفسه؛ إلا أنها قد تتخطى هذا الحد لتصبح سبباً في إيجاد مشاعر الكراهية والبغضاء بين الأخوات، مستقبلاً، إذا لم يتم التعاطي معها بأسلوبﹴ حكيم.
• ولهذه الغيرة أسبابها:
1. فقد تكون خلقاً متأصِلاً في طبع الإنسان يحتاج للتهذيب منذ الصِغر.
2. وقد تنتج عن تميّز الطرف الآخر بمواهب خلقية سواء جمالية أو ذهنية وفكرية الأمر الذي يثير غيرة الأقل حظاً.
3. أو لعلها تنشأ بسبب سوء تعامل الأم أو الأب مع بناتهما وعدم تحرّيهما العدل في المعالة بين الجميع.
4. في حين أنها قد تكون ناتجة عن مبالغة الآخرين ( الأقرباء والأصدقاء والجيران) بالاهتمام بواحدة دون أخرى وإظهار الإعجاب بها من غير مراعاة مشاعر أخواتها.
وفي محاولة لسبر أغوار الموضوع والوقوف للحظات وراء كواليس النفس، أجرينا حوارات ميدانية مع عددﹴ من البنات والأمهات، فواجهتنا صعوبة أثناء التحقيق نظراً لحساسية الموضوع وعدم الاعتراف بوجود هذه الخصلة سواء من بعض الأمهات أو من بعض البنات.
• كنّ يضربنني لتميُزي:
- تقول أم عبد الله ( وهي أمٌ لأربعة أبناء وعمرها 42 عاماً): كنت لا أحب أعمال المنزل فأبقى طوال الوقت على الشرفة لحين انتهاء أخواتي من العمل مما كان يسبب المشاكل بيننا. وبما نني المميزة بين أخواتي والأكثر تفوُقاً في التحصيل الدراسي حيث كنت أحتل المرتبة الأولى دائماً، فكنت أحظى بتعامل خاص من أهلي وأقربائي، ومما زادهم حباً لي واهتماماً بي أن أخي الوحيد قد ولد من بعدي فكانوا يقولون ( أنت التي أتت بالولد)! وكانوا يدللوني كثيراً مما كان يثير غيرة أخواتي فيضربنني ويهددنني بتخريب أدراجي التي كنت أحرص على المبالغة في ترتيبها.
• غيرتها عدوانية:
- في حين تقول أمّ فاروق ( أمّ لولدين): لفت سمعي ذات يوم وأنا أركب سيارة أجرة حديث سائقها – وهو أستاذ في مادة الرياضيات – حيث كان يتحدث عن ابنتيه اللتين تبلغ إحداهما الرابعة عشرة من العمر والأخرى لا يتعدى عمرها السبع سنوات، فطرح مشكلة غيرة الكبرى من الصغرى وعزا هذه الحالة إلى نفسية وطبع ابنته الكبيرة التي لا تتحرَج من إبداء غيرتها بشكل واضح ولا تخشى أن تصرِح بما يجول في صدرها تجاه أختها الصغرى التي بدورها تستغرب تصرفات من تكبرها بسبعة أعوام، ويؤكد الوالد على أنه ووالدتهما يحرصان على عدم التفرقة بينهما في المعاملة، بل والذي أثار دهشة الوالد أنَ ابنته الكبرى شدّدت على والديها بألاّ ينجبا طفلاً ثالثاً لما سيزيد من نسبة الغيرة في قلبها وسيضطرها – على حدِ قوله – إلى ارتكاب أشياء لا تلام عليها!!
• الابنة المدلّلة:
- وتقول أم محمد ( وهي أم لثلاثة أبناء وعمرها 30 سنة): إن غيرة الصغيرة 07 سنوات) من الكبيرة ملاحظة جداً فهي تغار من ثيابها، وإذا اشترت الكبرى شيئاً تختار الصغرى مثله، وتتعمّد تخريب أغراضها وافتعال المشاكل معها، كما أنها تغار من تفوّقها، ولذلك تحاول أن تكون متفوّقة مثلها، وقد كنت أشجعها وهي صغيرة بقولي: ادرسي جيّداً وكوني متفوّقة مثل أختك، مما زاد من غيرتها وهذا خطأ مني اكتشفته لاحقاً وتجنّبته. كما أنها تغار منها إذا ما اصطحبتها إحدى عماتها في مشوار وتسأل: لماذا يأخذونها ولا يأخذونني؟ فهي دلّوعة العائلة ولا تحب أن يأخذ أحد مكانها. وفي عيد الأضحى هذا العام اشتريت للكبيرة ثياباً جديدة ولم أشتر للصغيرة لأنها تملك الجديد من الملابس فما كان من والدي إلا أن ذهب واشترى لها ثياباً شبيهة تقريباً بثياب أختها حتى لا تغار منها.
ومن جهتي فإني أحرص على عدم التفريق بينهما وأتعمّد أن أشتري للصغيرة مثل الكبيرة. كما أني أحاول إفهامها أن أختها تحبها كثيراً وهذا هو الواقع حيث تظهر لها الكبيرة كل الحب فتصرِح لها قائلة: أنا أحبك، وتشتري لها الهدايا، كما أني أطلب من الصغيرة الاعتذار لأختها عندما تخطئ بحقها. ولكني أحياناً أحرم الكبيرة وأخاها من بعض المشاوير من أجل أختهما ( إلا أن يأخذاها معهما) لأني أشفق عليها عندما تبكي. وهذا خطأ مني أحاول تصحيحه.
• لديها قدرة لسانية عالية:
- في حين تقول ذكية ( التي تبلغ من العمر 28 سنة): كنت أغار من أختي التي تكبرني بقليل، فقد كان لديها قدرة لسانية عالية فضلاً عن أنها تجيد فن ( إدارة الأزمات)، فكنا إذا ما تشاكسنا وكان الحق معي ينقلب ليصير عليّ بفضل حنكتها في الدفاع عن نفسها، فما يكون مني إلا أن أستعمل معها ( لغة الضرب) وأضربها. أما الآن فإني أغار إذا عرفت أن أمي وأبي يرضيان عن إخوتي أكثر مني. وعندما أشعر أن الله اصطفى واختار غيري عليّ. كما أغار من امتلاك شخص لموهبة أنا أمتلكها وأتميز بها.
• كانت أمي تفرِق بيننا:
- وتتحدث أم عبد الرحمن ( وهي أم لثلاثة أبناء وعمرها 27 سنة) عن تجربتها بقولها: كنت أغار من أختي التي تكبرني بحوالي سنة ونصف لأن والدتي كانت تميّز كثيراً في المعاملة بيني وبينها. فتصرفاتها ( غير المقصودة) تعبّر عن مدى اهتمامها بأختي، وكل الزيارات والدعوات التي كانت تصلنا لم يكن لي نصيب فيها، حيث كانت تحرص على اصطحاب أختي والاهتمام بتزيينها وترتيب هندامها للذهاب معها. مرةً دعينا إلى حفل زفاف لأحد أقربائنا فبدأت كالعادة بالاهتمام بمظهر أختي لتذهب معها دوني، فما كان من والدي إلا أن وقف لها ورفض أن تذهبا إلا برفقتي، فوافقت على مضض، وانطلقنا إلى صالون الحلاقة فطلبت من مصففة الشعر البدء بتسريح شعر أختي في حين رفضت عمل الشيء نفسه لي. فما كان مني إلا أن بدأت بالبكاء ولم أسكت إلا بعد موافقتها على طلبي. والدي بارك الله به كان يقف دائماً إلى جانبي لاعتقاده بأنني مهضومة الحق دائماً، مع أني كنت من المشاغبات جداً وأستطيع أن آخذ حقي بنفسي. وكان دائماً يذكّر والدتي بأن تصرفاتها قد تؤثّر سلباً على علاقتي بأختي. وبالفعل فقد كنت أتعمّد إيذاءها وإزعاجها واستفزازها، فكنت مثلاً أشعل النور وهي نائمة كي تصحو منزعجة، أو أقوم بضربها وشدّ شعرها...
أما الآن فإني على يقين أن والدتي – سامحها الله وبارك بها – لم تكن تقصد القيام بأعمال تقلل من حبها لي أو حبي لها، ولكن بتحليلي إن السبب لتلك التصرفات يعود إلى يوم ولادتي حيث كانت تنتظر مولوداً ذكراً وليس أنثى. ولكنها اليوم تشكر الله على ما وهبها من أبناء.
***
والآن لنر من أيّ زاوية تنظر الأستاذة عبلة بساط المتخصصة في التربية النفسية إلى مشاعر الغيرة وآثارها حيث تقول:
• إن آثار الغيرة إن لم تكن مدمِرة فهي مؤذية ومن شأنها تقويض العلاقات الودّية بين أفراد العائلة.
• وتتابع: بدايةً، تسبب مشاعر الغيرة بإبعاد أفراد العائلة عن بعضهم البعض فيستقل كل فرد بأفكاره ونشاطاته واهتماماته بحيث يفقد عنصر التفاعل بينه وبين بقية أفراد الأسرة.
• وإذا كانت جذوة الغيرة مشتعلة فهي تدفع صاحبها إلى إيذاء الآخرين بأسلوبﹴ غير مباشر، بحيث يعمد إلى عمل كل ما من شأنه أن يستفزهم ويغضبهم.
ثم وجّهت بعض النصائح للآباء خاصةً ولسائر الأفراد بشكل عام:
1. الحرص على مبدأ العدل والمساواة بين الأبناء في الحقوق والواجبات وإعطاء كل ذي حق حقه؛ ( عادةً ما يهمل الآباء حقوق البعض على حساب البعض الآخر).
2. الحرص على احترام مشاعر وخصوصية كل الأبناء على حدٍ سواء، ويتبع ذلك إشاعة احترام الأبناء بعضهم لبعض.
3. الابتعاد عن مقارنة الأبناء بعضهم ببعض خاصةً من ناحية المظهر الخارجي أو الذكاء الأكاديمي أو أي أمر آخر (أجمل منه، أذكى منه، أكثر نشاطاً منه...).
4. توسيع دائرة اهتمامات الأبناء وإشراكهم بنشاطات اجتماعية مختلفة وإعانتهم على تحقيقها إذا لزم الأمر.
وتختم الأستاذة عبلة توجيهاتها بكلمة تهديها إلى كل فتاة تعاني من مشاعر الغيرة، فتقول: بعد اكتمال النضج العقلي لدى الفتاة تصبح مؤاخذة على تصرفاتها ومسؤولة عنها، وبذلك فإنه من غير المقبول ترك هذه المشاعر السلبية تتحكم بتفكيرها وبردود أفعالها، بل ينبغي أن تتعامل مع هذه الغيرة على أنها مشاعر تؤذيها شخصياً قبل أن تؤذي الآخرين فتعمل على التخلص منها ومن رواسبها.
إذاً، فبعد بلوغ سن التكليف لا يقبل من الفتاة أن تتهم أمها أو أباها أو الآخرين بعد الاهتمام بها وبتفضيل أختها ( أو أخواتها) عليها. والحريُ بها أن تكون من ذوات التفكير الإيجابي وأن تستثمر طاقاتها وما وهبها الله به في فعل الخير وترضى بما قسم لها ولا تنظر إلى غيرها نظرة بغضً وحسد. كما ينبغي لها أن تعمل على تحصيل ما لها من حقوق بأسلوب لبق، والابتعاد عن كل ما يسيء للعائلة وأفرادها للإبقاء على العلاقات الودية بين أفراد الأسرة.
***
وفي الختام، نهمس في أذن كل فتاة فنقول لها: ليس المهم ما يقوله الناس عنا وما يعجبون به منا، إنما الأهم ما يرضاه الله منا وما يحاسبنا عليه يوم القيامة، فإن من رحمته تعالى أنه لا يحاسبنا على جمال أشكالنا أو قبحها أو على درجة ذكائنا وتفوُقنا العلمي أو على تعدد مواهبنا، وإنما يحاسبنا على ما نكسب من خير أو شر وما نبذل من جهود لتزكية نفوسنا ولتطهير قلوبنا من الأمراض المحبطة للعمل، ولنجعل شعارنا قول النبي :"من التمس إرضاء الناس بسخط الله سخط عليه وأسخط عليه الناس".
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة