وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً
يخطط العدو البعيد والقريب لمجتمعاتنا الإسلامية أن تمزق، وأن تضعف، وأن تفتقر، وأن تفسد، وأن تغوص في أوحال الحروب الأهلية، وأن تسقط في حمأة الرذيلة والفساد، وأن تتخلى عن دينها.
فهذه الأمة التي يمكر بها أعداؤها مكراً تزول منه الجبال، يخططون لإفقارها، ولإضلالها، ولإفسادها، ولإذلالها، ولإبادتها.
لكنّ اللَّه جل جلاله بيّن لنا ـ معشر المؤمنين ـ طريق الخلاص من مكرهم الذي تزول منه الجبال؛ قال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران: 120).
إن ديننا يعلمنا أن الأسلوب الصحيح في مواجهة ضغوط الخارج وتحدياته لا يكون في الرد عليها فحسب، وإنما يتمثل في الانكفاء على الداخل بالإصلاح والتنقية والتدعيم... ولا ريب أن ذلك شاق على النفس؛ لأن المرء آنذاك ينقد نفسه.
والآية الكريمة: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً، هذه الآية التي نحن بصددها مَعْلَم بارز في التأصيل لهذا الانكفاء، ولعلنا نقتبس منها الحقائق التالية:
إن كثيراً من النصوص توجهنا نحو الانكفاء على الداخل بالنقد والإصلاح والتقويم والتحسين في مواجهة الخارج، وإن المتتبع للمنهج القرآني في قصص الأمم السابقة يجد أن ما ذكره القرآن الكريم من أسباب انقراضها، واندثار حضاراتها، لا يعود أبداً إلى قصور عمراني، أو سوء في إدارة الموارد واستغلالها؛ وإنما يعود إلى قصور داخلي، يتمثل في الإعراض عن منهج اللَّه جلّ وعلا، والتأبِّي على رسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذه الحقيقة بارزة في جميع أخبار الأمم السابقة.
وحين حلّت الهزيمة بالمسلمين في أُحُد، قال بعض الصحابة رضوان اللَّه عليهم: كيف نُهزَم ونحن جند اللَّه؟! فجاء الجواب القرآني: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) (آل عمران: 165) فالهزيمة وقعت بسبب خلل داخلي، وليس بسبب شراسة الأعداء، وكثرة عَدَدهم وعتادهم؛ إذ لا ينبغي تضخيم العدو إلى الحد الذي يجعل تصور هزيمته شيئاً مستحيلاً؛ فالعدو بَشَر له إمكاناته المحدودة، وله موازناته ومشكلاته، وفي هذا يقول اللَّه سبحانه وتعالى: (إن تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإنَّهُمْ يَألَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) (النساء: 104).
لم نكن على مدار التاريخ نمتلك الوعي الكافي بهذه الحقيقة، فبدل أن نلجأ إلى التربية والتوجيه والتعاضد والتراحم، واكتساب عادات جديدة، واقتلاع المشكلات من جذورها.. كنا نواجه التفسخ الاجتماعي، والانحراف السلوكي بأمرين: القوة، ومزيد من القوانين، حيث كانا أقرب الأشياء إلينا تناولاً، وأقلَّها تكلُفَةً بحسب ما يبدو، وقد عبّر عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه عن هذه الحقيقة حيث قال: (يحدث للناس من البلاء على مقدار ما يُحدثون من الفجور).
إن العقوبات الرادعة لا تُنْشِىء مجتمعاً لكنها تحميه، وهذه رؤية إسلامية جلية، فآيات الأحكام والعقوبات لا تشكل أكثر من عُشْر آيات القرآن الكريم، أما الباقي فكان يستهدف البناء الإيجابي للإنسان من الداخل.
إن التجربة تعلمنا أن كثرة القوانين وتعقيدها تصب دائماً في مصلحة الأقوياء، وتزيد في قيود الضعفاء! وأن البطش لا يحل المشكلات، لكن يؤجِّلها!
إن الآية الكريمة تعلمنا مرة أخرى : أن النصر الخاص يسبق النصر العام، وأن الأمة المنتصرة على أعدائها هي أمة حققت نصراً داخليّاً أولاً، وحقق كل واحد من أفرادها نصراً خاصّاً على صعيده الشخصي قبل كل ذلك، وهذه الحقيقة واضحة في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
والآية الكريمة: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا...) (الرعد: 120) توجهنا إلى أمرين: الصبر، والتقوى.
ويعني الصبر: احتمال المشاق، ومتابعة صارمة في تأدية التكاليف الربّانية، مهما تكن الظروف قاسية؛ لأن الصبر نصف النصر، والنصف الثاني يأتي من أخطاء العدو.
فكأن الصبر استخدام للوقت في الخلاص من مشكلات لا نستطيع الآن أن ننجح في الخلاص منها.
قال تعالى: (ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل: 110).
إن احتمال المعاناة دون حركة للخلاص من مسبِّباتها قد يكون ضرباً من اليأس والاستسلام، وقد يكون ضرباً من العجز أو قِصَر النظر أو ضيق الأُفُق.
أما التقوى فتعني هنا بصورة أساسية: نوعاً من الحصانة الداخلية من التأثر بالظروف السيئة المحيطة؛ إذ إن الهزائم العسكرية والظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية.. كل ذلك محدود الضرر ما لم يغير من المبادئ والقيم والنفوس والأخلاق والسلوك، بل إنها تقوِّي روح المقاومة، وتُكسب الخبرة، وتكشف عن الأجزاء الرِّخوة في البناء الداخلي، وتحطِّم هيبة العدو في النفوس.
إن المفهوم الأساسي للصبر والتقوى هنا هو: تهذيب الذات وتحسينها، وتدعيمها، والرقي بها؛ وهذا التدعيم يأخذ أشكالاً كثيرة، منها: المزيد من الالتزام الصارم بالعبادات، ومقاومة الشهوات، والتعاون ، والمواساة والتضحية والإيثار.
إن الفرد المسلم لا يستطيع أن يبتعد مسافات كبيرة عن الوضعية العامة للمجتمع، وذلك التباعد مرهق ومكلف؛ فحين يكون كَسْبُ القوت الضروري لا يتأتى للسواد الأعظم من الناس إلا عن طرق مُحرَّمة أو مُلتوية مثلاً، فإن الذين سوف يستجيبون لنداء اللقمة الحلال سيكونون قلة، وسوف تظل مبادئهم في حالة اختبار دائم، وربما أدخلهم ذلك في مشكلات مع أقرب الناس إليهم
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة