كلمة الله هي العليا
طُلب منّي مرّةً أن أكتب عن والدي _ رحمه الله_ جديداً لم يكتب عنه أحد، وعلى الرغم من أنّ هذا قد يصعب عند الكتابة عن شخص كالوالد، لأنه كان صادقاً مستقيماً واضحاً عبّر عن نفسه في أحاديثه وكتاباته فتعرّف الناس عليه، إلاّ أنني وجدت أن خير ما أتطرّق إليه هو: فقه تربيته الذي استمدّ مفاهيمه من كتاب الله وسنة رسوله، فجاءت تربية إسلامية صحيحة.
مفهوم "كلمة الله هي العليا": لقد نشأنا في مجتمع يهتم كثيراً بكلام الناس واعتباراتهم، مجتمع غلبت عادته وتقليده على الأصول الإسلامية، فجعل كلمة الله عليا في بعض جوانب عقيدية وعبادية، وكلمة الله لا اعتبار لها أمام الأمور الاجتماعية السلوكية، هذا ما درج عليه معظم الناس وخالفه الوالد مخالفة كبيرة، كان يوجهنا دائماً من حيث لا نشعر إلى ضرورة اتباع أمر الله ومخالفة ما عداه في كل جوانب الحياة، فالواجب يُفعل والمُحرّم يُترك ولو لم يُرض هذا الناس، لم يكن يوجه أمراً لفعل ما يجب ولا نهياً لترك ما يجب، وإنّما كان يزرع فينا عبر السنين حب الله عز وجل والرغبة في رضاه بما يتناسب وأعمارنا، فالصغير تستهويه الأعطيات المادية والهدايا التي كانت تجيّر لله، فكل ما يأتي من الله مكافأة لعمل صالح أو كلمة طيبة، وكان يركز على هذا العمل، فيمتدحه ويطريه ويُشيد به أمام الناس ممّا يجعل الطفل فخوراً بنفسه لأنّه استطاع أن يفعل الخير، وكلما تقدّم العمر كلما خفّ العطاء المادي المحسوس ليُجيّر العمل ويُحوّل إلى صحيفة الأعمال التي تُسجّل على الإنسان وتُحصي أفعاله، والجزاء أيضاً يتحوّل إلى الجزاء المعنوي؛ إلى السعادة التي يجب أن يُحسّها المؤمن لأنّه أرضى الله، وأنّ هناك جنّة تنتظره وبها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر، كلّ هذا يأتي بشكل تدريجي يتناسب والعمر والإدراك، ويخاطب العقل والقلب معاً لتتم القناعة به ويُصبح جزءاً لا يتجزأ من العقيدة.
وكان يؤكد لنا معنى الحديث الشريف "من أرضى الله بسخط الناس رضي عنه الله وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله برضى الناس سخط عليه الله وأسخط عليه الناس"، كان يؤكده لنا عبر حوادث الحياة فهو مع كل خبر نتسقطّه، أو حادثة تُروى لنا، يسوق لنا عبرها وعظاتها بأسلوب بسيط مُرغّب تفهمه عقولنا الصغيرة ويترسّخ فيها أنّ الله مع عباده الطائعين، كان بيتنا متميّزاً عن بقية البيوت، في مأكلنا ومشربنا، وأفراحنا وأتراحنا، وعلاقاتنا الأسرية، كلها متميزة بأمر الله ونهيه، القانون السائد فيها قانون السماء، لا اعتبار لكلمة (عيب) ولا لكلمتي (عادة وتقليد) التي تسوس المجتمعات وتسيطر على أفرادها، فالإنسان المؤمن هو الذي يتبع ما جاء في كتاب الله وعلى لسان رسول الله "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، وقد تأصلت بفضل الله هذه الأمور في نفوسنا، واستطعنا أن نربي عليها أبناءنا فجزى الله الوالد عنا خير الجزاء وبارك له في حسناته.
مفهوم "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير" لقد سألتني إحدى زميلاتي في الجامعة على استحياء، لأنها كانت طالبة لي قبل أن تصبح زميلة، كيف تتمثل الشموخ الذي تحسّه في شخصيتي؟ وأفطري هو أم مكتسب؟ ضحكت وأنا أجيبها إنها صفة عمل الوالد عليها بجد لتصبح بهذا الشكل، فإنني مذ وعيت على الدنيا إلى آخر لحظات حياة والدي _ رحمه الله_ وأنا أسمع منه كيف يكون المؤمن قوياً في الحق، يُظهر عز الإسلام وقوته في جسده بالاعتناء بغذائه وصحته، وفي عقله بقوة حجته وصحة منطقه وتزوده بالقراءة والعلم والثقافة، وفي عاطفته بتنمية الرغبة بالحب والعطاء والتضحية والإيثار، وفي لسانه بالفصاحة والبلاغة والبيان، وفي سلوكه بإحساسه بالآخرين واهتمامه بهم، لا يسمح لأحد بأن يعتدي على حقوق الله وحقوق المخلوقين، وهنا أسرد قصة حدثت لي وأنا في الصف الرابع الابتدائي لا يُمكن أن أنساها أبداً لأنها تركت في نفسي وفي شخصيتي أثراً لا يُمحى، كانت لي زميلة أكبر مني سناً وتفوقني طولاً وعرضاً فقد أنعم الله عليها بصحة كنت أفتقدها في ذاك الزمان، وكان بيننا
على عادة الصغار بعض الخلاف ممّا جعلها تترصّدني وإخوانها الأربعة الصغار على طريق المدرسة، فيضربونني ببعض الحجارة، صبرت عليها يوماً وآخر وأنا أطلب إليها بصبر ولطف أن تكفّ عني أذاها لكنها لم ترتدع، أنذرتها وتوعدتها بأنني سأضطر للدفاع عن نفسي، لم تهتم لتصورها بأنها وإخوتها أقوى مني وأنا القصيرة الضئيلة أمامها، فما كان مني إلا أن جمعت كفي كما علمني الوالد وقبضت أصابعي وبكل بساطة سددّت إلى بطنها لكمة قوية _ وهذه الضربات كان الوالد يعلمنا إياها للدفاع عن أنفسنا عند الحاجة (فقد كان رياضيا يتمرن باستمرار وعنده كيس من الرمل كالذي يملكه الملاكمون دربني أمامه على تسديد اللكمات) ممّا جعلها تصرخ طالبة النجدة من أمها التي هرعت إلى بيتنا تشكوني إلى أمي، ومن سوء طالعي أنّ الوالد كان مسافراً فأصابني اللوم والعتاب من أمي _رحمها الله _ فهي لم تكن تؤيد رأي الوالد وتقول له بأننا بنات ولسنا صبياناً !! لكن الوالد أثنى عليّ عند عودته وسماعه لهذه الحادثة. واستمر في تنبيهي لعدم استعمال القوة للاعتداء، إنها فقط للدفاع عند الحاجة.
لقد ربانا على أنّ المؤمن يستمد القوة والعزة من رب العالمين لأنه يملك العالمين وبيده مقاليد الأمور، وأنّ الله قد سخّر له بقية المخلوقات لأنّه يستطيع بعقله وفكره أن يسود الكون، وأن يعمر الأرض بالتقوى والإيمان، ومن أروع ما كان في فقه تربيته _ رحمه الله_ أنّه ما كان يعلمنا شيئاً إلا تمثّله أمامنا في سلوكه، وعلى من يرغب أن يراجع كتاب ذكرياته ليقرأ عن مواقفه العظيمة في الدفاع عن الحق والوقوف في وجه الباطل، كان لا يخاف في الله لومة لائم، وكان يقول كلمة الحق ولو كلفته حريته أحياناً، لكن ثقته بأن الله معه كانت تنصره على أعدائه.
مفهوم "المؤمن للمؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"
لم يكن _ رحمه الله _ يوجهنا إلى حب أنفسنا ومن يلوذ بنا فقط، بل يعلمنا بأنّ على المؤمن أن يعين بقوته من لا قوة له، ويعين بصحته من لا صحة له، ويعين بماله من لا مال له، ويعين بلسانه من لا يملك قوة المنطق، وأن يبدأ بمن يعول أولاً، وهنا أيضاً لا يُمكن لي أن أنسى كيف كان يغادر فراشه الدافئ في ليالي الشتاء الباردة ليتفقّدنا في أسرّتنا ويُحكم الغطاء علينا، وإذا سمع سعال إحدانا عندها يفقد الرغبة في النوم ويلازمنا ليدفئ الغرفة ويحضر الساخن ويتفقد الحرارة والمرتفعة ويتصل بالطبيب المداوي، كان أباً لا مثيل له ، لم تقف حدود رعايته وحبه وعطائه عند عمر معين بل استمرت إلى آخر لحظة في حياته، وامتدت لتشمل أصهاره وأحفاده وأزواجهم وزوجاتهم . .
ومن ثمّ يتدرّج بهذه الرعاية المادية والمعنوية لتشمل بقية أسرته، فهو عندما تزوج لم يكن ليترك إخوته دون زواج لذا سعى إلى إيجاد الزوجات المناسبات لهم، وتعهدهم بالإنفاق والرعاية إلى أن استطاعوا الاعتماد على أنفسهم، وبهذا علمهم كيف تكون الأسرة متحابّة مترابطة فكانوا له خير الأخوة المحبين المعترفين بالفضل والإحسان ، اعتبروه أباً لهم فعاملوه باحترام وتقدير امتد حتى آخر لحظة من لحظات حياته وحياتهم _ رحم الله من ماتوا منهم _ وبارك في أحيائهم، كان رغم بُعد الشُقّة بينه وبين بقية عائلته يسأل عنهم جميعاً ويتفقّد أخبارهم وأحوالهم، فيعطينا درساً عملياً في كيفية الترابط والتآلف والتراحم، لتشمل المجتمع والأمة كلها.
تغمده الله برحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنانه، وبارك له في حسناته، وتجاوز عن سيئاته، فقد كان أباً لمن لا أب له، ومعيناً لمن له حاجة، وعائلاً لمن لا عائل له.
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن