أولئك الذين صدقوا
كثيرة هي المفاهيم التي نعتبرها بدهية، نعرف أهمّيتها ومنزلتها في ديننا، ونلتزم بها بمقدار ما في قلوبنا من إيمان، وما في نفوسنا من إرادة. لذلك لا نحبذ سماع الحديث المتكرّر عنها بل ننقبض حالما نسمع هذا الحديث. وكثير منا لا يقبل أن يناقش في معرفته عنها، أو التزامه بها.
ومع ذلك قد نجد خللاً كبيراً حين نتفحّصها في نفوسنا، وندقق في فهمنا لها، أو تمسّكنا بها.
ومن هذه المفاهيم البدهية: الصدق. وجميعنا يعرف أن الصدق خلقٌ إسلامي أصيل، وأنّه أحد مقومات الشخصية المسلمة، وأنّه صفة شاملة تتناول مختلف المواقف وصور السلوك، فتعني استقامة عمل اللسان وعمل الجوارح ومطابقة القول العمل، وموافقة السلوك الاعتقاد. فالذي يخبر بخلاف ما يعلم، أو يقول بخلاف ما يعمل أو يتصرّف بخلاف ما يعتقد... لا يكون صادقاً.
وهذه المعاني أكّدتها الآيات القرآنية:
1- طالبت النّاس بالبرهان على صدق ما يقولون﴿قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾. [البقرة: 111].
وحين ادّعى أهل الكتاب أن نعيم الآخرة مختصّ بهم، طالبهم القرآن بإثبات دعواهم:﴿قل إن كانت لكم الدّار الآخرة عند الله خالصةً من دون النَاس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين﴾. [البقرة: 94]. وحين انسحبوا أمام هذا التحدّي كان ذلك دليلاً على كذب دعواهم وبطلان معتقدهم.
2- وجعلت الفيصل بين المؤمنين والمنافقين: التزام الصدق، صدق الكلام وصدق السلوك، بل جعلت صفة الصدق مقابلة لصفة النّفاق.
ففي التعقيب على غزوة الأحزاب وما ظهر من علامات التخاذل عند المنافقين والذين في قلوبهم مرض.. جاء قوله تعالى:﴿من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً﴾. [ الأحزاب: 23].
3- وفي أكثر من سورة جعل الكذب الصّفة المميزة للمنافقين، اللازمة لهم، بل جعلت جوهراً للنفاق، وسبباً له.. ففي الآية من سورة التوبة:﴿وجاء المعذّرون من الأعراب ليؤذن لهم، وقعد الذين كذبوا الله ورسوله..﴾ وفي الآية (77) منها أيضاً ﴿فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون﴾.
وفي الآية (10) من سورة البقرة، في بيان عقوبة المنافقين:﴿ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون﴾.
4- وجعل أمارة الصدق في دعوى الإيمان أن يلتزم المؤمن بأحكام الإسلام كافّة، وأن يصبر على صنوف الابتلاء في المال والجسد وحين قتال العدو، وأن يجاهد بماله ونفسه في سبيل الله.. فهذا هو المؤمن الصادق. اقرأ قوله تعالى:﴿ليس البرَ أن تولُوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكنّ البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين، وآتى المال على حبِه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسّائلين وفي الرذقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتَقون﴾. [ البقرة: 177].
﴿ إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون﴾. [ الحجرات: 15].
﴿ ولقد فتنَا الذين من قبلهم، فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنَ الكاذبين﴾. [ العنكبوت: 3].
فالصدق المراد في هذه الآية أعمّ جلالة من صدق اللسان: إنّه ثبات على الإيمان وتكليفاته من بذل للمال، وإقامة للصلاة، وصبرصلى الله عليه وسلّم على الأذى، وجهادﹴ في سبيل الله.
5- ولمزيد بيان لمعنى الصدق والصادقين، وشرف الصادقين الذين يدعونا القرآن الكريم لنحظى بصحبتهم نقرأ في سياق التعقيب على أحداث غزوة تبوك وذكر مواقف المجاهدين والقاعدين وتوبة الله تعالى على الثلاثة الذين خلّفوا...:
﴿ يأيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصّادقين﴾. [ التوبة: 119]. ونقرأ عقبها:﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول الله﴾. [ التوبة: 120]. فهي إشارة إلى أن الصادقين الذي تأمر الآية المؤمنين بصحبتهم إنما هم المجاهدون. ونجد نظير هذه الإشارة في سورة القتال:﴿ فإذا أنزلت سورةٌ محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيِ عليه من الموت. فأولى لهم طاعةٌ وقولٌ معروف، فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم﴾.
6- ولو وقفنا عند أحد معاني الصدق، وهو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن قبل غيره، وهو صدق اللسان، ومطابقة كلام الإنسان لما يعلم، لوجدنا الأمر كذلك خطيراً.
فليس صادقاً من يتفوّه بالكلمة منطلقاً من الظنّ، ومن يتحدّث بكل ما سمع من غير تمحيص، ومن يسعهم في نقل كذب وافتراء غيره... بل ليس صادقاً من ادَعى أنه رأى حلماً، وهو لم يره فعلاً في منامه، وليس صادقاً من دلّس ليوهم السامع خلاف الحقيقة، وإن لم يقع في الكذب الصريح... فهذا هدي النبوة بين أيدينا:
" وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّاباً" متّفق عليه.
"إياكم والظّنّ فإن الظنَ أكذب الحديث" رواه أحمد والبخاري ومسلم.
"كفى بالمرء كذباً أن يحدِث بكل ما سمع" رواه مسلم.
"من حدّث حديثاً وهو يرى أنه كذبٌ فهو أحد الكاذبين" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
"من تحلّم بحلم لم يره كلّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل" رواه البخاري.
وقد ردّ علماء الحديث حديث من عرف بالتدليس إذا لم يصرّح بالسماع، فإنّ التصريح هو الذي يزيل احتمال التدليس، والتدليس أخو الكذب.
وأمّا أن يستغلّ المسلم ثقة أخيه به ليروِج عليه بعض الكذب فهذا من الخيانة. وقد روى أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال:
"كبرت خيانةً أن تحدّث أخاك حديثاً، هو لك مصدِق، وأنت له به كاذب".
بل إن المؤمن ليتحاشى الكذب في أمره كلّه. وما أحسن ما قال الجنيد رحمه الله:"حقيقة الصدق أن تصدق في موطنﹴ لا ينجيك منه إلا الكذب".
فليختبر أحدنا صدقه في القول والعمل، في القوة والضعف، في الصبر والجهاد... وعسى أن يكون من الصادقين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة