ثلاثية غرناطة
كتب بواسطة منى حوا
التاريخ:
فى : المقالات العامة
2202 مشاهدة
ربما تكون "ثلاثية غرناطة" الرواية العربية الأشهر حول الأندلس، تناولت فيها الكاتبة الراحلة رضوى عاشور سيرة الأندلسيين بحسّ ملحميّ وزعته في ثلاثة أجزاء، غرناطة ومريمة وخاتمتها الرحيل، يأتي هذا التسلسل في الفترة الزمنية منذ عام 1491 وحتى عام 1609، أي منذ لحظة تسليم آخر ممالكهم غرناطة وحتى قرار الملك فيليب الثالث والقاضي بطرد الأندلسيين المنصرين أو المورسكيين باعتبارهم جسما غريبا طارئا على تلك البلاد.
لن أتحدث عن الرواية فأنا لا أستطيع تقييم العمل أدبيا، ببساطة لا أملك أدوات ذلك، لكني لطالما شعرت في طيّات "ثلاثية غرناطة" بصدق غريب رغم رتابة اللغة وضعف الحوار، شعرت بألم رضوى عاشور التي كتبت سطورها بمداد من الألم إثر اجتياح بغداد، وكأنها في توقيت كتابة هذه الرواية، تعقد وصلا من الحسرة في النزف والشجن.
أتت هذه الرواية بطابع سردي تجاوزت فيه رضوى عاشور كل الأساليب التقليدية في السرد التاريخي، اللافت أن عاشور لم تزر غرناطة مطلقا قبل كتابة هذه الرواية، وهنا يتساءل القارئ كيف استطاعت التماهي مع الحالة الأندلسية في ضبط إيقاع كلماتها عند الوصف، وكأنها بنت ذلك الزمن وكأنها شربت تفاصيل المكان.
وبالرغم من أن الرواية أتت ضعيفة في الإسقاط المكاني، إلا أن حروفها عبقت بطيب الياسمين والنارنج الغرناطي والمشمش المغناج والرمّان الكتوم، تحيلك صور الأوصاف لأحياء الأندلس العتيقة وطرقات حي البيازين المرصوفة على الجانبين بأشجار اللوز والكستناء والسرو والنخيل.
في "ثلاثية غرناطة" ستشمّ روائح الفطائر المقلية في زيت الزيتون، سترى الكسكسي المسكوب على أواني الخزف المزيّن بأشهى اللحوم ستسمع همسات النساء في البيوت وأحاديث الرجال في الحمامات بل وستضحك مع كركرة المياه المقبلة من قمم الجبال على الوديان المنحدرة، وفي بعض سطور الرواية -رغم كل الألم- ستخال شمس الضحى الذهبية منعكسة بغرور على نهر شنيل، ملقية ظلالها على هيبة قصر الحمراء الشامخ رغم الانكسار.
ومن خلال سرد قصة عائلة غرناطية يتكون أفرادها من الجد إلى الحفيد، استطاعت رضوى عاشور توصيف حال دقيق للظروف الاجتماعية والسياسية والدينية التي عاشها الأندلسيون عقب سقوط أوطانهم، كما أبدعت في صياغة الحالة النفسية للأندلسيين المرابطين في بلادهم إثر ما عانوه من ظلم وقهر وطمس للهوية وحرمان من ممارسة أبسط حقوقهم الإنسانية، وذلك من خلال تصوير انفعالات وأحاسيس أبطال الرواية الذين توالى رحيلهم فرداً فرداً في كل فصل، وكأن عاشور تجسدّ قصة الأندلس فيهم مع سقوط المدن التي تعاقبت واحدة تلو الأخرى.
من المعروف أن الروايات لا يؤخذ بها كمرجع تاريخي، إلا أن هذه الرواية -جانحة الخيال- تحفل بذكر مواقف وأحداث حقيقية مؤرخة، على سبيل المثال وصفت عاشور سقوط مدينة بلنسية عام 1236 ميلادية وكيف استطاع أهلها الحفاظ على جذورهم ومعتقداتهم وعاداتهم وهويتهم بل والاحتفال بأعيادهم الدينية حتى المولد النبوي رغم التضيقات والملاحقات، وبالمقابل قارنت الأمر بواقع إخوتهم الأندلسيين في منطقة آراغون مثلاً التي غرق أهلها بالاستلاب والتغريب لغياب الدور الدعوي وانعدام الفقهاء.
كما أن قصة سليمة بنت جعفر التي أُحرقت في ساحة البيازين كحال كتب جدها أبي جعفر الوراق الغرناطي الذي أُستهل بمأساته رواية "ثلاثية غرناطة"، هو اسم حقيقي لسيدة من أشهر النساء الثوريات في تاريخ الأندلس، وقد ذكر قصتها "ماثيو كار" في كتابه المترجم، الدين والدم.. إبادة شعب الأندلس.
سليمة ورثت عن جدها مكتبة عظيمة، كما شهدت في طفولتها محرقة الكتب في ساحة باب الرملة، والتي راح على إثرها أكثر من 100 ألف مجلد من الكتب العربية، كانت سليمة من نساء غرناطة العالمات في شتى المعارف خاصة الطب، جعلت من غرفتها معملًا لإنتاج الدواء لتطبيب المرضى، وهو ما جرّ عليها تهمة السحر أمام محاكم التفتيش أو محاكم التحقيق التي رفعت أعمدتها في مدن الأندلس مع تتابع انهيار الممالك العربية.
سليمة اتهمتها محاكم التفتيش بالحمل سفاحا من الشيطان، زوجها سعد المالقي الذي أجبروه على تغير اسمه إلى كارلوس مانويل بعد تنصيره، كان غائبًا أثناء حملها. الحقيقة أن زوجها كان هاربًا من السلطات لكونه من الثوار الذين لم تخبوا نضالتهم رغم تسليم غرناطة، كان يتردد إلى بيته سرًا، ولم تشأ سليمة أن تفضح سرّ زوجها الثائر.
ومن التهم التي وجهتها محاكم التفتيش إلى سليمة بطلة ثلاثية غرناطة، تهمة الطيران ليلًا في الهواء، وهي تهمة كانت توجه للساحرات في القرون الوسطى، والسبب في هذه التهمة أنها أقرت أن النبي محمد أسرى به ليلًا وعرج إلى السماء.
وبعد جملة هذه التهم، حوكمت بالفعل بشكل هزلي بعد تعذيب وتنكيل، وانتهى بها الحال حرقا على الخازوق في إحدى ميادين غرناطة، ذات المكان الذي أحرقت فيه كتب جدها وهي طفلة صغيرة، وفي الطريق إلى المحرقة كانت تتقدم بكبرياء وثبات حتى لا يتشفى فيها أعداؤها.. رحمها الله.
هذه الرواية تساهم في تقريب الحالة الموريسكية بتفاعل إنساني عميق، وهي تذكرة للسفر نحو التاريخ ومتابعة الأحداث بصورة فاحصة حتى وإن جاءت خالية من الحوار مع الطرف الآخر، في "ثلاثية غرناطة" مآلات النفس عند العيش في ازدواجية بين ظاهر يرفضه وباطن يوجعه، أو بين تغريب يقتله وخذلان يتجرعه، سترى في سطور الرواية ألم وغضب وثورة وتعذيب وحب واستنزاف وسؤال عن الإله ومحاكمة للذات وطرد وتسليم وموت سببه الاقتلاع من الأرض لا نزع الروح.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة