باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
التاريخُ الإسْلاميّ في زمن 'الاهتراء' الثقافي!
مع أن النقد سمةٌ مهمة لتطور المجتمعات وتنميتها، نراه قد أصبح هدفًا بحدّ ذاته، يبتعد عن البناء ويغرق في محاولات إعادة التعريف ليصل لـ "نقض" المشاريع والجهود القائمة، وهي سمة لموجةٍ ثقافية يتنامى مريدوها، وهي ظاهرةٌ لها أسبابها وتناولها كتابٌ ومفكرون بالدراسة والتمحيص. وفي هذا الصدد أرسل صديق لي مقالًا، وجدت فيه تحاملًا على تاريخنا، وتقييمًا بعيدًا عن الإنصاف لجهود علماء ومؤرخين في السنوات الأخيرة، ومن باب الموضوعية سأورد المقال الذي أشرت إليه بعد نهاية الرد، وأسأل الله أن يجعله خطوةً لجلاء الفهم، ومحاولةً بسيطة لتبيان المثالب التي طرخها صاحبه
وأبتدئ بأن الكاتب قد أحسن عندما بدأ خاطرته واصفًا إياها بأنها "مهترئة"، فمع أنني أوافقه بأن إعادة "كتابة التاريخ الإسلامي" ليست الوصفة العجيبة أو الوحيدة للنهضة والعودة للريادة، إلا أنه تحامل في طياتها على التاريخ الإسلامي بشكلٍ عام، وعلى جهود ثلة مباركة من العلماء والمؤرخين والمفكرين، الذين تصيدوا الأخطاء ونذروا حياتهم ليعيدوا تقديم التاريخ بعينٍ ناقدة وروحٍ إسلاميّة متوثبة، وبنى كلامه على تجربةٍ ضئيلة وغير نموذجيّة في الاطلاع على الكتابة التاريخيّة، وفي هذا الصدد بعض النقاط التي تُناقش وتردّ على ما طرحه الأخ الكريم في مقاله.
- أزعم بأني قرأت واطلعت على كتابات من ذكرهم الأخ في مقاله، بل لقد اطلعت وعاينت كل نتاجات المؤرخ الدكتور علي الصلابي وقضيت العشرات من الساعات في موقع قصة الإسلام و مع مقالات الدكتور راغب السرجاني، بل وقرأت لغيرهم الكثير... ولكن السؤال الملحّ كيف استخلص الكاتب بأن هؤلاء طرحوا بأن إظهار التاريخ "الناصع" هو وصفةٌ سحريّة للنهضة، تصلح لإعادة المسلمين؟!!.
فإن مشروع النهضة وإعادة الأمة لركب الريادة من جديد، لا تتأتى إلا بعد تضافر عوامل وجهود إصلاحيّة وعلميّة وفكريّة وسياسيّة متتابعة ومتراكمة... وفي هذا الصدد نجد مفكرين كبار تناولوا هذه الإشكاليّة بالعرض والتمحيص وطرح الحلول، من أمثال الأمير شكيب أرسلان والمفكر مالك بن نبي والعلامة أبو الحسن الندوي رحمهم الله و الدكتور جاسم سلطان وغيرهم الكثير... ونستطيع القول بأن إعادة كتابة التاريخ الإسلامي جزءٌ بالغ الأهمية في هذا المشروع العملاق، وفي سياق قدرة الأمة على النهضة بكشلٍ متكامل. حيث تشكل الكتابة التاريخيّة وما يعتريها من بحث وتمحيص ومقابلة روايات ودحض شبهات وأفكار دخيلة، نسقًا من إعادة الفهم لتاريخنا، وتصب هذه الجهود جميعها في إعادة تكوين المسلم وشخصيته المعرفيّة والثقافيّة، ليعود مرتبطًا بتاريخه وماضيه بعلاقةٍ قوية، ويشتدّ ترابط الشاب والناشئة مع عظماء أمتهم، وقادتها الذين شادوا صرح عزتها وأقاموا حضارتها. ولا يمكن بحالٍ من الأحوال اجتزاء هذه المحاولة التي بدأت مع بداية القرن العشرين وبُعيد سقوط الدولة العثمانيّة، بأنها أتت في سياق الردّ على ما تمّ تشويهه وتسويقه من قبل الاستشراق وأذنابه في بلادنا، وانعكس في المناهج الدراسيّة والجامعيّة، إضافةً للدراما والسينما ووسائل الإعلام.
- بنى الكاتب رأيه "المتحامل" على عينة صغيرة جدًا ممن كتب التاريخ أو تناوله في برامجه (بعيدًا عن موقفنا الشخصي ممن ذكرهم)، فهو لم يورد نتاجات علميّة (أو ربما لم يطلع) لمجموعةٍ من أهم المؤرخين والعلماء في هذه المرحلة، ونذكر منهم:
- د. عبد الرحمن علي الحجي.
- د. عماد الدين خليل.
- البروفيسور فؤاد سزكين.
- د. شوقي أبو خليل رحمه الله.
- د. محمد حرب.
- د. سعيد أوزتوك.
- المؤرخ محمود شاكر رحمه الله.
- د. عبد الله عنان رحمه الله.
- الأستاذ حسين مؤنس رحمه الله.
- د. خليل إينالجك رحمه الله.
- أورخان محمد علي رحمه الله.
- د. عمر تدمري.
- د. محمد موسى الشريف.
- يلماز أوزتونا رحمه الله.
- العلامة محمود شاكر رحمه الله (المصري).
- د. جمال عبد الهادي.
- د. أكرم ضياء العمري.
- اللواء ركن محمود شيت خطاب رحمه الله.
- د. محمد أمحزون.
أو من كان لهم مساهماتٍ محددة قيّمة كالأديب الفقيه علي الطنطاوي رحمه الله، والشيخ د. مصطفى السباعي رحمه الله، وغيرهم .... هذه الثلة المباركة وغيرهم الكثير ممن عمل على تقديم التاريخ الإسلامي بشكلٍ علميّ عميق، وقد عُرفت نتاجاتهم برصانتها العلميّة ومراعاتها الشروط الأكاديميّة والبحثيّة، والعديد منهم شغل مناصب أكاديميّة رفيعة ودرَّس سنوات طويلة في العديد من الجامعات العربيّة والإسلاميّة. وفي هذا الإطار لم يعمل أيٌّ منهم على "تجميل" الواقع، بل انصب عملهم على إظهاره كما هو، بشكله الموضوعي، نافين الدسائس وما بثته الأيادي السوداء، فنجد أنهم يوردون مكامن الضعف والخطأ، ويقرون بأخطاء تاريخيّة ارتكبت من غير تدليس ولا تصحيف، فالكتابة التاريخيّة ليس كتابة الهوى بل عرض الواقع وربط الأسباب بالمسببات، وإيضاح مسارات التغيير والتغيُّر.
وفي هذا السياق نطرح سؤالًا بالغ الأهمية، ما هو هدف من أنصف تاريخنا من المستشرقين الغربيين، أو من غير المسلمين العرب، وأشادوا بالرقي والتقدم والحضارة، كأمثال سيغريد هونكه وغوستاف لوبون وغيرهم، فهل كانوا أداةً لتثبيط الجماهير الراقدة التي تآكلت بالوهم وهدها الوهن؟!!.
- ليس هناك تاريخ ملائكي البتة، ولكن الأمر كما وصفه الأستاذ محمد قطب رحمه الله، حيث شبّه التاريخ الإسلامي بالصفحة البيضاء وفيها بعض نقاط أو خطوط سود متباعدة، هذا البياض الواسع ومساحات العمل فيه لا يشبع فضولنا، ولا يطيب لنا عيشٌ إلا أن نضع المكبر على هذه النقاط القاتمة المعدودة، ونصورها للنشء الجديد على أنها صفحات من السواد الكالح، فتتحول نظرتهم للتاريخ وندفعهم لبناء موقف سلبي عنه. وكما ختمت النقطة السابقة فقد أظهر المؤرخون المنصفون الخلل والمثالب ولكنهم لم يجعلوها أساس كتابتهم للتاريخ، بل أظهروا معها مكامن المجد والعدل والسؤدد والحضارة.
إذًا علينا أن نطرح سؤالًا أساسيًا، من أي منظورٍ نريد أن نكتب به التاريخ عامةً، والتاريخ الإسلامي بشكلٍ خاص. والإشكاليّة الأخرى، بأننا نركز دائمًا على التاريخ السياسي وهو يختزن الحروب والقلاقل والفتن، ونترك جوانب أخرى لا تحمل الإشكاليات ذاتها بلا معالجة وتدقيق وعرض، كالتاريخ "الاجتماعي والعلمي والفكري والحضاري والمعماري"...
- خروج البعض وعرضهم للتاريخ على التلفاز والفضائيات، وتصدّرهم وسائل الإعلام، ليس عبرةً في محاكمة التاريخ واتخاذ مواقف سابقة منه، فكيف على سبيل المثال (بعيدًا عن رأينا الشخصي أو مواقفنا منهم) لـ "عمرو خالد" أن ينشر وعيًا تاريخيًّا، أو لـ "جهاد الترباني" وهو "قاصّ" بالمعنى الحديث، أن يساهم في تقديم رواية متزنة وواعية للتاريخ، وهو قد نشر كتابه عبر وسائل التواصل و "اليوتيوب" ليحشد جماهيريّة من غير تقديم أي قيمة علمية متمايزة في كتابه، وهو أمر أجاب عنه متخصصون عندما سُألوا عن الكتاب.
فالأمر إذًا يعتمد على مسألتين:
- أصحاب الفكر والتخصص والدراية والعمق في التاريخ، بعيدون عن الإعلام، وجلّهم بعيدٌ عن وسائل التواصل الأكثر انتشارًا وتأثيرًا في هذه المرحلة.
- وسائل الإعلام تريد الأسماء اللامعة الشهيرة، التي تجذب المشاهد، وتحقق مشاهدات عالية وما يرتبط بها من إعلانٍ وأرباح، فيكون لهؤلاء الأولويّة، كمثال السويدان وعمرو خالد -في مرحلةما-، وهو أمر يتعذر مع المؤرخين الأصيلين، فهم مغمورون عند العامة، ولا يمتلكون –أحيانًا- أدوات الظهور والعرض بشكل شائقٍ يجذب المشاهد، مع ما تحتاجه من أدوات عرض فنية.
لذلك تحتاج هذه المعضلة لمشروع كبير جدًا، وتضافر جهود مؤسسات عديدة لمعالجة ما سبق.
- من الكوارث الكبرى جعل الماضي تسليةً عن الواقع، وهو ما لا أراه في كتب المؤرخين المرموقين، بل تراهم يدعون للعمل والجدّ وأخذ العبر وعدم تكرار التجارب ذاتها، والإسقاطات الماضية. وأظن ومن واقع تجربةٍ شخصيّة بأن الانغماس في التاريخ لا يشكل تسليةً أو "تخديًرا" بل يدفع بشكل كبير للعمل ووضع الأهداف، ولا أجد من يهتم بتاريخنا، ويقرأ عن الفتوحات والعظماء، وعن الحضارة والرقي، وهو ناسٍ لهموم أمته، لاهٍ عن أوجاعها وما تعانيه، ومن "يُسكره" التاريخ فقد سَكِر بألف أمرٍ آخر.
- من الواجب علينا أن نعرف عمن نأخذ التاريخ، خصوصًا مع الانفتاح الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي، وكثرة النقل من غير تدقيقٍ وتمحيص، إضافةً لتصدر أشخاص هم أشبه بالقصاص، هدفهم حشد الجماهيريّة كيف ما اتفق، أو لبثّ أفكارٍ وهدم شخصيات، والتركيز على روايات غريبة وتحليلات سمجة قد ردها أصحاب العلم وقاموا بتقييمها بميزان السند والمتن بصنعة أهل الحديث المحكمة.
ختامًا نحن في خضم معركةٍ خطيرة، لا تقل خطورة وأهمية عن المعارك التي تخوضها أمتنا في أشتات الأرض، فعلينا أن نكون قائمين في معركة الوعي وحضور الفكر والفهم، ومعرفة غايات الفاسدين وإرادة المشوهين، وهي معركةٌ خسرنا جولتها مع بداية القرن المنصرم. وأسأل الله أن لا نخسرها أيضًا مع كل من يريد "الاهتراء" في هذا الزمن.
مقال الأخ وفي نهايته اسمه:
" #خاطرة مهترئة
خلال فترة الجامعة استمعت لكامل سلسة "تاريخ فلسطين والحملات الصليبية" و"تاريخ الأندلس" للدكتور طارق السويدان، واستمعت لكل ما وقع تحت يدي من شرائط وسلاسل ودروس في التاريخ الإسلامي (سيرة، أندلس، حروب صليبية الخ) للدكتور راغب السرجاني، حتى أن موقعه "قصة الإسلام" كان قبلتي الدائمة على الإنترنت، وكنت أقبل على جميع ما فيه من مقالات وقصص بلذة ونهم عجيبين، كما أنني اشتريت نسخة غالية من كتاب "الدولة الأموية" لعلي الصلابي (مجلدين) وقرأتها كاملة ...
بعد كل هذا الاستماع والقراءات كان يجتاحني فعلا شعور طاغ بتقدير ما يفعله هؤلاء ... تنقية وتحلية التاريخ الإسلامي بهدف إعادة ثقة الأمة بنفسها لإخراجها من حلقة تخلفها المفرغة مرة واحدة وإلى الأبد ... (أو كما كانوا يزعمون!).
امتدت بي السنون والأحداث، وتقلبت بي النفس، وتغيرت علي البلاد، وتنوعت مشارب قراءاتي "ذات طابع الهواية ما زالت"، واختلفت الطريقة التي أصبحت أقبل بها على الكاتب والكتاب ... وبالمحصلة، لم أعد ذلك المتحمس للغاية لما يسمى بمشروع "إعادة كتابة التاريخ الإسلامي" .
- لم أعد أؤمن بأن الخروج بتاريخ نقي ملائكي وعرضه على الناس يشكل تعويذة سحرية للنهوض من وسط الركام ... الناس (كل الناس في كل البلاد) لا ينقصها استحضار تاريخ لإعلاء شأنها أمام نفسها وأمام الآخرين، وإن لم يكن ذاك التاريخ حاضرا فخلقه وتزويره حرفة سهلة للغاية، ويمكن التواطؤ والسكوت عليه بشكل جماعي جمعي مخيف!
- لم أعد أؤمن بأن من استمعت لهم وقرأت لهم سابقا يتصفون بمنتهى "الأمانة العلمية" ... هم كانوا يسوقون لي الأحداث والتواريخ بالروايات التي أشتهيها ويشتهيها جمهورهم العاجز مثلي، ومعظمهم كانوا يرفعون شعار "حسن الظن" بالأوائل عند الاختيار من روايات متناقضة ... وللأسف، حسن الظن لا يغني من الحق والعلم شيئا!
- تسليم مهمة رواية التاريخ على الملأ للدعاة الدينيين وشيوخ الفضائيات هي أكبر جريمة علمية تاريخية ارتكبتها هذه الأمة في حق نفسها في عالمنا المعاصر ... الناتج لم يكن سوى توسيع دائرة المقدس والمنزه والمحظور نقده إلى أبعد حد، حتى شملت جميع الملوك والسلاطين والخلفاء ورجال الماضي، فصار الناقد لأي رمز سابق أو معركة أثرية مطاردا بصفات خيانة الجماعة المسلمة والاقتراب من الكفر الديني حتى ... بينما لم يحقق هذا الفيضان التاريخي المعرفي المنهمر على الناس من كل حدب وصوب أي من مقاصده المعلنة من تقدم أو تحرر ...
- استكمالا على النقطة السابقة، فإن رواية التاريخ (واجتراره أحيانا) بات تجارة رابحة تدر الذهب والفضة والشهرة والنجومية على أصحابها ... حتى أنني في معرض عمان للكتاب قبل أشهر قليلة تعجبت من "تلال" الكتب المنتشرة في المعرض لكاتب يسمى "جهاد الترباني" كنت قد استمعت سابقا لجزء من محاضرة له على اليوتيوب عند زيارتي لإحدى الأصدقاء في ألمانيا، ولم أستطع إكمال المحاضرة لشدة تقليديتها ومشابهتها لخطب الجمع المملة والطافحة بالمبالغات ... وكأن الأمة كان ينقصها نجم جديد على هذه الشاكلة!!!
- كثرة التذكير بالماضي والتغني به هي حيلة العاجزين، ووسيلتهم المحببة للهروب من تبعات الحاضر الثقيلة المليئة بالدماء والحروب والانقسامات والتبعية والتخلف المجتمعي، والاستبداد السياسي، والضحالة الفكرية، وتواضع الإمكانات الصحية والتعليمية ... هي وصفة مثالية للنجاة من ضيق الإخفاق إلى سعة الأحلام الوردية اللذيذة الناعسة ...
- لا أظن أن النجاح والشهرة سيكونان حليفين لمن يقصد الدقة العلمية في تنقية التاريخ الإسلامي وتصفيته ... فعلى الجانب الأول جماهير عريضة متعطشة لتبرئة نفسها وأسلافها بالكامل من كل نقيصة أو مثلبة ... وعلى الجانب الآخر منظمات وجماعات متخصصة في شيطنة التاريخ نفسه وإخراجه بمظهر قاتم بامتياز يتناسب مع صورة منتج العصر الأبرز: "داعش" ... وما أسست أصلا لإثباته!
نحن أسرى قناعاتنا الإيدلوجية الثابتة إلى يوم الدين ...
Ahmed nabil Amireh"
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن