من أمراض المجتمع المجاملة والمسايرة
قال عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -:
"لا تُخالطوني بالمصانعة، ولا تُكلِّموني بما تُكلَّم به الجبابرة، ولا تَظنوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي أو عدْل أشير به عليَّ؛ فإن من استثقل الحق أن يُقال له أو العدل أن يُعرَض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه؛ فلا تكفُّوا عن مشورة بعدل أو مقالة بصدق، فإني لستُ أكبر من أن أُخطئ".
لقد أسرفنا في المجامَلة، وأفرَطنا في المسايَرة والمصانعة؛ حتى كِدْنا لا نَرى ناقدًا لمخطئ، ولا معترضًا على مُبطِل، وعددْنا ذلك كياسةً ولباقةً.
والمجاملة كما يراها الدين الحنيف أن نُحسن القول ونتأدَّب في الحديث، ونَرعى حق الجليس، فلا نُواجِهه بما يُغضبه، ولا نُجابِهه بما يَبغضه من غير أن نبدِّل الحقائق، أو نقول ما لا نعتقد.
لقي الحَجاج رجلاً من اليمن يرفع صوته بالتلبية وهو يطوف بالبيت الحرام، فقال له: "كيف تركتم واليكم محمد بن يوسف؟!"، فقال اليمني: "تركتُه جسيمًا وسيمًا"، فقال الحجاج: "لم أسألك عن صحَّتِه، وإنما أسألك عن سيرته"، فقال اليمني: "أما عن هذا، فقد تركتُه ظلومًا غشومًا، يُرضي المخلوق بمعصية الخالق"، فقال الحجاج: "ويحك، أما تعلم أنه أخي؟!"، فقال اليمني: "وهل تطمع في أن أُحابِيَك في أخيك على حساب الحق وأنا في بيته؟!".
هذه سُنَّة أسلافنا الصالحين الذين لم يُسايروا ظالمًا مهما بغى، ولم يُجامِلوا أحدًا على حساب الحق مهما طغى، فما سبيلنا الآن في المجامَلة والمُسايَرة.
هذا صديق يُحادِثك ليَسرك ويُسامِرك ليُضحِكك، فإذا جدَّ الجدُّ وحزب الأمر، توارى واستَتر.
يُعطيك من طرف اللسان حلاوةً * ويَروغ منك كما يروغ الثعلبُ
وهذا جليس المقهى يلقاك بالبِشْر والتَّرحاب، ويُشارِكك الحديث والشَّراب، ويَتبارى معك في اللهو واللعب، تُطلِعه على سرِّك وتُشاوِره في أمرك، فيُحسِّن لك المُلكَ المَعيب، ويَمتدح عملك الشائن المريب، يُسايرك ولا يُغايرك، ويُوافِقك ولا يُعارِضك، فإذا انتهى من مجلسك والتقى بغيرك، أفشى سِرَّك وسفَّه رأيَك.
وهذا زميل المدرسة والمعهد تُذاكِره الدرس، وتُشاطره البحث، فيُثني عليك ويَكيل لك المدح، دون أن يُكلِّف نفسَه تَصحيح ما أخطأتَ، وبيانَ ما يَعلمُه وقد خَفي عليك.
وهذا رئيس يُقصد للمساعدة، فيَطلب إليه أحد الناس أن يَصلِه بعمل، وهو لا ينوي العون ولا يُريد المساعدة، ولكنه قد مُرِّن على المجامَلة والمسايرة، فيَعِد ويمنِّي ويُرجئ، ويترقبُ صاحبُ الحاجة المسكين الميعادَ الذي حدِّد لقضاء حاجته مؤمِّلاً مسرورًا، يعدُّ الأيام والساعات، ثم يَنتهي أمره إلى الحِرمان والخيبة، ولو أنه رُدَّ من أول الأمر بصَراحة وصدْق، لكان خيرًا للفضيلة، وأكرمَ للرئيس، وأهدأ لبال الطالب، ولكنها المجاملة، المجاملة المُنحرِفة عن وضعها الصحيح.
وهذا رئيس العمل في الديوان أو المصنع، يَضيق ذرعًا من مرؤوسِه المهمل، ويَعتقِد أن من صالح العمل فصْله وإقصاءه، ثم لا يَلبث أن يعلم صِلَته بكبير، فيتحوَّل سخطه رضاءً، وذمُّه ثناءً، وبغضُه محبَّةً وحنانًا، فيُبالغ في الإحسان إليه، ويَتغالى في العطْف عليه.
وهذا رجل يَكتُم الشهادة أو يؤدِّيها على غير وجهها؛ مجاملةً لصَديق، أو مُسايَرة لغنيٍّ، أو مُصانَعة لقوي، فتَضيع الحقوق وتَكثُر الجرائم، ويُعاقَب البريء، ويُفلت الآثم، وتنعدم الثقة، وتفسد الأخلاق.
ومن أعجب ما سمعت في المسايَرة والمُداهَنة أن رجلاً له قيمته كان في حضرة عظيم أراد أن يَعرف رأيه في أحد العلماء، وظنَّ المسؤول أن هذا العالم من المقرَّبين فأجاب على الفور: إنه تقي صالح، يُرجى خيره، وتُلتمَس بركته، وما كاد يتم قوله حتى لمح الغضب في وجه سائلِه العظيم، فاستدرَك قائلاً: لكنه جاهل أحمق.
نرى في كل مجتمع ثعالب مُخادِعة، تُبالغ في الظروف وتُمعن في التلطُّف؛ حتى لا تَرفع صوتها بحِجاج أو دِفاع، ولا تُبدي شيئًا من حراك أو امتناع، وتَعدُّ ذلك مِن الكياسة وحُسن السياسة، وتَعتبِر النُّصح فظاظةً وغِلظةً، وتُسمي التذكير والمَوعظة الحسنة جدلاً ومِراءً يتنافى مع الذَّوق السليم، ويَتنافر والطبْع الكريم، وما درى هؤلاء أنهم بهذه الموافَقة المُطلَقة والمُسايَرة التامَّة قد حارَبوا الحق والصدق والصَّراحة وهي من أعظم مكارم الأخلاق.
ما درى هؤلاء أنهم بذلك قد ألغَوا عُقولهم، وأعمُوا أبصارهم، وأماتوا إحساسهم، وأخمَدوا أنفاسهم، وفقَدوا شخصيتهم، وأضاعوا كرامتهم، وأهدروا مُروءتهم، وجنَوا على أمَّتِهم.
رحم الله تلك الأيام التي كان المرء فيها يقول الحق ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، ويجهر بالمعروف ولا يخشى في الحق لومة لائم، ذاكرًا قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [النساء: 135].
نعم، رَحِم الله أيامًا كانت فيها النفوس صادقةً، وكانت الألسُن فيها بكلمة الحق ناطِقة، ورحم الله عُمر بن الخطاب تُجاهِره عجوز بالحق وهو على المنبر، فيقول: "أصابت امرأة وأخطأ عمر"، وهو الذي يقول غداة خلافته: "إن رأيتم فيَّ اعوجاجًا، فقوِّموه"، فيَسمع من يقول له في شجاعة وحزْم: "والله لو نعلم فيك اعوجاجًا، لقوَّمناه بسيوفنا"، ثم لا يُغضب ذلك عمر، فيقول: "الحمد لله الذي جعل في المسلمين مَن يُقوِّم عُمر بسيفه".
رضي الله عنك يا عُمر، فقد قلت الحق، وطلبت أن يقال لك، ولما قيل، قرَّت به عينك، ونزلْتَ على حُكمِه، فلا مُوارَبة، ولا مُداجاة، ولا مصانَعة، ولا مُحاباة، ولا مُداهنة، ولا مُراءاة، ولا مُجامَلة، ولا مسايَرة.
لا حياة للأمم مع الغشِّ والنِّفاق، ولا بقاء لها ولا تقدُّم إلا بالشجاعة الأدبية، والصراحة ومجابهة الحقائق ولو كانت قاسية، فبهذا تَعرِف الأمة وضعها الصحيح وموقفها الصَّريح، فتهدف إلى الأمام وتَسير إلى الكمال.
ورحم الله سلَفنا الصالح؛ كان حِرصُهم على الحقِّ مَضرِب الأمثال، لا يَهابون فيه أحدًا ولا يَخشون رهَبًا.
فما لنا لا ننهَج - ونحن نتلوا من آيات الذكر الحكيم - ما كان خليقًا أن يَزيدنا حِرصًا على الحقِّ وتعلُّقًا به، وحبًّا له، والحق أحقُّ أن يُتَّبع.
قال الله تعالى ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 - 3].
المصدر : الألوكة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة