المحقق والمدقق بسام الجابي رحمه الله
بسام عبد الوهاب الجابي – رحمه الله -
محقق مدقق مجتهد ، مستقل في الراي ، عصامي في الاسلوب ، حريص على وقته ، جليس العلماء و المحققين ، امتاز بالجدية و الوقار ، يتحدث بصوت خفيض و لكن مؤثر ، يمتاز اسلوبه باللهجة العلمية و الايجاز . آل على نفسه نشر الدرر من تراث امته و اخراجه بثوب قشيب و هيئة بهية ، و ظل مثابرا على هدفه منذ ان عرفته الى وفاته يوم امس رحمه الله تعالى... عرفته منذ الثمانينات عن طريق والدي الشيخ مأمون الجويجاتي وكنا نراه في اوقات متقاربة خصوصا بعد ان اضحى نسيبا لعمتي بارك الله بها ، و كان يتصدر تلك الجلسات بحديثه العذب و اخباره الشيّقة و فوائده الماتعة... و كانت جلساتنا معه ممتعة ثرية لانها كانت مع عالم محقق وفير الانتاج ، فإما ان يخبرك عن الجديد في اعماله ، و الطريف في مطالعاته ، و المشاهير التي قد التقى بهم إما عيانا او عبر تدقيق و تحقيق مؤلفاتهم ، و مع انه صار لي فترة لم التق بالمغفور له يرحمه الله ، إلا اني ما زلت احنّ لمجلس ضم ابا حسان ، ما احلاه و ما اعذبه...
و لما كنت مقيما في دمشق في اواخر الثمانينات من قرننا الماضي - اطلب علم القراءات عند شيخنا ابي الحسن الكردي - يرحمه الله - التقيته في محلتهم المسماة بِ"الدائرة الزرقاء" الكائنة في شارع الحمراء في دمشق المحروسة فبادرني رحمه الله: هل لك في زيارة معي الى علَم من اعلام دمشق؟ و من هو ؟ قال الدكتور راتب النفّاخ ! فمضيت معه الى ذلك الدكتور الفذّ في زيارتي اليتيمة له ... .... و كان الشيخ النفّاخ يتحدث عن القراءات و اطلعنا على مصحف على رواية حفص عن عاصم دُوّن على هامشه تفاصيل باقي القراءات ، و وقتها كان ذلك الامر غاية في الندرة ... و قد تعلمت في تلك الزيارة من بسام رحمه الله كيفية التواصل مع العلماء و كيف يتحلّى الانسان بحسن الاستماع لكي يستفيد منهم ، و حسن الطلب عند العلماء ليتثرّى من فوائدهم ، و اهمية ان يصبر الانسان على ما قد ينّغص عليه من سماع ما يخالفه رغبة في ان يفيد من العلماء ، حيث اكّد علي رحمه الله ان انتبه الى كلام النفاخ ، و استفيد منه و في حال سمعت شيئا انكرته ، اوصاني بان اُغضي و انتبه الى ما يفيدني من كلامه. و قد نبهني رحمه الله ان الطويلب عندما يزور عالما او يسمع من من محقق فقد يتعرض الى اختلاف محتمل في الرأي ، و لكن الفائدة المرجوة من ان يوسّع الانسان من دائرة من يأخذ منهم العلم و المعرفة اكبر بكثير من الاقتصار في اخذ العلم عن من يتفق الإنسان معهم فقط في الرأي. واوصاني رحمه الله بعدم اضاعة الوقت و التقليل مما يضيع الوقت و كنت وقتها اقوم بتدريس بعض الاقارب ، فقال لي رحمه الله : اترك هذا كله و تفرّغ لاخذ العلم ، فإذا ما انهيت ذلك ، فبإمكانك بالتدريس....
كان مجيدا في اعماله ، ترى الاتقان في خطواته ، اقترحت عليه مرة ان يتخذ له مساعدا في تحقيقه لكتبه ، قال ومن يقوم عليها مِثلي؟ وقداهتم رحمه الله بإستخدام اخر التقنيات في عمله ، ففي محله المذكور اعلاه ، رايت اول مرة جهاز "السكانر" ، و شرح لي فائدتها في حفظ المستندات التي يراد حفظها على هيئتها الاصلية. أما اهتماماته البحثية فكانت موسوعية و هذا من عجائب عصرنا ، اذا قلّ وجود محقق مجيد - في عصرنا- ممن يمتلك تلك الناصية العلمية للتحقيق في علوم متباعدة شتّى ، فأقول و انا على دراية قليلة بما كتب ، فإن الاستاذ الجابي قد حقق كتبا بالفقه ( الشافعي و الحنفي و المالكي) ، و كتبا باللغة و كتبا بالادب العربي (مثل كتبه عن العملاق الرافعي )، الى كتب عن الأعلام ، الى مسائل بالعقيدة ، الى اخبار الاذكياء ، الى كتب بالنكت ، و مرة كنت في سوق ميدوغري الكبير في نيجيريا ، و فوجئت بكتاب حققه الجابي و عنوانه نوادر جحا الكبرى....و لا تسل عن اُنس ليلتي وانا اقضيها مع جحا و نوادره... و استطيع الجزم بانه يصعب على انسان عادي ان يحيط قراءة و فهم بكتب الجابي كلها بالاضافة الى انجاز مهامه الاخرى في الحياة... و لا ريب في ان الله قد بارك بوقت الجابي حتى انجز ذلك العمل القياسي في هذا الزمن القليل....
يمضى بسام الجابي رحمه الله الى ربه ، و تبقى آثاره شاهدة عليه ، يمضي الى ربه و قد قام بمهمته خير قيام ، يمضي الى خالقه و يحمل في جعبته اكثر من مائتا كتاب حملت توقيعه ، مائتا مشروع رات النور على يديه ... يسير الى ربه و قد استغل وقته في الحياة احسن استغلال ، فلقد صنع من ثواني عمره كنوزا يُفتخر بها ،و صدقة جارية تبقى ذخرا له من بعده ..... لقد كانت له نفس كريمة مجدّة تأبي الا الطموح للقمم ، و كانت في حياته اضافة لحياة الاخرين....و هنا اعزّي نفسي و عائلته الكريمة ببسام سائلا المولى سبحانه ان يتغمده في رحمته و ان يبارك في اولاده و من يلوذ به ....
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
رسالة الشعر
مسرى الأرض ومعراج السماء.. بيان وأضواء!
عامٌ مَرّ..
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب! الجزء الثاني
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب!