تربية النشء المسلم في الغرب.. رحلة ليست سهلة أبداً
من أجمل ذكرياتي في كندا تعرفي إلى إتحاد الطلبة المسلمين بالجامعة، كنت أُسر برؤية القادة المنظمين من الفتيات والشباب والأعضاء الذين نشأوا ودرسوا في المدارس الكندية أو الأمريكية وغيرها، والتقوا بالجامعة وهناك - تحت مظلة الإتحاد - تعارفوا وتآلفوا، تجمعهم تخصصات الهندسة والصيدلة والعلوم السياسية وغيرها، وتميزهم هويتهم الدينية وسط أقرانهم، ويميزهم تمكنهم من العمل سوياً عرباً وعجماً دونما أحكامٍ أورواسب عنصرية كامنة في تنظيم فعالياتٍ فصلية ثابتة بأروقة الجامعة كالأسبوع التعريفي بالإسلام وموائد الإفطار برمضان وحفلات الأعياد ومخيمات الصيف والربيع وغيرها، ولامتلاكهم اللغة والمنطق التي يفهمها ويتحدثها القوم بالإضافة لبعض أبجديات الدين والعصر كانوا هم أحسن من يتحدث باسم الجالية ويمثلها في قضاياها وهموم المسلمين المختلفة أمام المجتمع الكندي الواسع.
أمواج من الصراعات والتحديات!
غنيٌ عن الذكر القول بأن النموذج السابق ليس هو الشائع الغالب الذي تراه العين وللأسف، بل إن تنشئة وتقديم تربية متكاملة تجمع النواحي العقلية والإيمانية والتعليمية لطفلٍ مسلمٍ في دول المهجر تشبه عملية رصف طريقٍ للسيارات من أسفل جبلٍ إلى أعلاه في موسمٍ ماطر!
على سبيل المثال تجد أن المدرسة الثانوية - بوابة الدخول للجامعة - بيئة خلاقة وغنية من حيث الإمكانات المادية الجبارة وأساليب التعليم الحديثة، غير أنها تحمل مجموعة من المتناقضات التي تولد حيرة وصراعات قوية لدى الطلبة المحافظين عموماً والمسلمين منهم بشكلٍ خاص، من ذلك أن معلمة الطبخ المتميزة بالذوق الرفيع في إعداد المأكولات تتحدث دون توقف عن صاحبها الذي تطبخ له ويشاركها منزلها وكل شيء دون عقد زواج، ومدرس الرياضيات القدير ذو النكتة الحاضرة بين الطلبة قد يكون شاذا جنسياً والعياذ بالله، ومدرسة الإجتماعيات ذات الاطلاع والثقافة قد تكون ملحدة تلمز في ثنايا حديثها الذين يؤمنون بإله لهذا الكون، الناشئ المسلم في مجتمع كهذا قد يلتقط تلميحات وإشارات ممن حوله من الفتيات اللواتي يتطلعن لعلاقة معه، والفتاة المسلمة قد تجد صعوبةً مع الحجاب خصوصاً إن كانت هي الوحيدة الجديدة في المدرسة، وأصعب من ذلك كله وجود شاب عربي أو فتاة مسلمة هما أبعد ما يكونا نموذجاً يمثل الإسلام والعروبة بين الطلبة والمدرسين، وفي وجودهما فتنة وعبء على من يحاول الحفاظ على الدين والهوية في هذا الوسط، وغالباً ما يكون هذا المجتمع المدرسي غارقاً في قصص الحب وأفعال الفحش وكلمات البذاءة إلا من نجاه الله، و يصبح توجيه الناشئة وتصحيح قناعاتهم أصعب من ذي قبل، فالخرق يتسع على الراقع يوماً بعد يوم.
الحاجة أم الاختراع!
في تجمعات الجالية المسلمة واحتفالاتها، كنت أحرص على الجلوس مع السيدات اللواتي كان لأولادهن مشاركات في رابطة التلامذة المسلمين، واللواتي هاجرن في أواخر السبعينيات وما بعدها وعملن جاهدات من أجل مستقبل ناجح ﻷطفالهن، أسمع قصصهن وأجمع تجاربهن في التربية، رأيت أن الخبرة التي نطقت بها أفواههن زاخرة بالتحديات ومحاولات التغلب أو التعايش مع العقبات التربوية أو الإشكالات الدينية بذكاء أو بأنصاف الحلول، فقد كانت إحداهن تعاني انشغال زوجها عن ولدها المراهق الذي بدأت تقلق عليه من الفراغ وتخاف عليه من صحبة السوء، فاجتمعت بمن في مثل ظرفها ووضعها من الأمهات واتفقن على جمع الأولاد بأحد ملاعب كرة القدم بالمدينة بعد استئجاره من البلدية في أوقات محددة، وتبادلن الإشراف على مباريات الأولاد وتوفير المتطلبات وبعض المأكولات لهم حال انتهائهم من اللعب، وبعد مرور أسابيع ساق الله الهداية لذلك الابن واحتذى به بقية الأولاد.
أم أخرى كانت ابنتها تمر بتعثر وإخفاق في أداء الصلوات، فخافت الأم أن يتبع التقصير في الصلاة تهاونٌ في فرائض الدين الأخرى كالحجاب أو في الأخلاق، فعملت على إقامة مخيم للبنات فقط في أوقات الإجازات، واستعانت بمثيلاتها من الأمهات لتنظيم فعاليات ترفيهية في أجواء روحانية بين سباحة وطبخ ونوم ورياضة وأمور أخرى أسعدت قلب ابنتها وقلوب الفتيات وبتن يترقبن أيام المخيم عاما بعد عام.
كذلك فإن أحد الآباء عرض على إدارة احدى الثانويات إقامة صلاة الجمعة للطلبة المسلمين، ووضح للإدارة مواضيع الخطبة وأنها ستكون بالإنجليزية، وأن حضورها متاح لمن رغب في ذلك، ومع مرور الوقت تشجع بعض الطلبة الذكور وبدأوا يتناوبون في الخطبة والإمامة فيما بينهم، وبعد مدة من الزمن زاد عدد الحضور من الشباب والبنات، وانتظموا في إقامة صلاة الظهر كل يوم في المدرسة واعتمدت إدارة المدرسة المكان والوقت باسمهم.
تجربة أم
من الصور المشرقة التي رأيتها بجانب النموذج الوارد أعلى المقال؛ إخوة ولدوا وتربوا في هذا المجتمع الغربي وحافظوا فيه على مبادئهم الدينية واستطاعوا الوصول لتخصصات أكاديمية مرموقة وكان لهم بصمة مميزة في أنشطة الجامعة ومع زملائهم المسلمين، لما قابلت الفاضلة والدتهم سألتها قصتها في تربيتهم فذكرت لي أن نجاح تجربتها كان بداية من حرصها وزوجها على السكنى قرب المسجد والمداومة على حضور فعالياته، ثم اتفاقها مع زوجها على أساسيات مشتركة بينهما في تربيتهما ﻷطفالهما، وكان لمدرسة أولادها الإبتدائية الإسلامية دور رئيس في تثبيت وتعزيز العقيدة ومبادئ الدين والأخلاق بطريقة تكاملية بين البيت والمدرسة، وأعانها الله بمعلمات فضليات ومعلمين أفاضل أجادوا تعليم اللغة العربية والقرآن لأولادها، كذلك اهتمت بإيجاد صحبة طيبة لأطفالها منذ نعومة أظافرهم، ومساعدتهم ومشاركتهم في أنشطة صفية وغير منهجية مابين المدرسة والمركز الشبابي الإسلامي بالمدينة، وكانت لها ومع زوجها الفاضل روح المبادرة لتنظيم أو المشاركة في أي فعالية إجتماعية أو ثقافية وأثر نافع على أولادها وباقي الناس في المجتمع، وأخيراً استثمارها زيارات الوطن في الصيف لتعزيز قيم بر الوالدين وترسيخ العادات الشرقية كاحترام الكبير والتواصل مع الأسرة الكبيرة الممتدة.
ختمت هذه الأم حديثها بالتأكيد على أن عملها أتى ضمن منظومة متكاملة من المسجد والمدرسة والمركز الإسلامي وتواجد أفراد الجالية المسلمة من رجال ونساء وبنات وفتية مثلوا لهذه الأم وأسرتها مجتمعا من الوطن مصغرا، وهذه الخلاصة هي نفسها النصيحة الذهبية التي قدمتها المرشدة الطلابية للآباء الذين أبدوا مخاوفهم من أن يغير مجتمع الثانوية ملامح هوية أبنائهم فأجابت بثقة: اصطحبوهم معكم دوما لحفلات وفعاليات مجتمعكم واجعلوها مسلية وذكرى باقية في أذهانهم كل مرة، سيظلون أوفياء لأصولهم وثقافتهم على الدوام!
كلمة أخيرة
مجهودات الحفاظ على الهوية في المجتمع الكندي لم تحدث في نطاق الجالية المسلمة وحدها، بل إن كثيراً من الثقافات حولنا تعيش تجاربا مماثلة أو أبعد منا في ذلك، على سبيل المثال المجتمعات الآسيوية لها طابعها الخاص الذي يميز ويفرض على شبابها وبناتها أنماطا معينة من القيود والآداب في الحياة اليومية، واليهود من أكثر الفئات عناية وتفكيرا وتخطيطا لأمور أبنائهم ومجتمعهم بأعمال ومشاريع تمتد لأسابيع وسنوات، والعقل يحتم علينا الإستفادة من تجارب الآخرين وتوظيفها لما فيه مصلحة لنا.
أخيراً فحكومات الدول الغربية لما فتحت باب الهجرة ومنح الجنسية لبعض فئات الناس كانت تراهن وتعول على الجيل الثالث إلى الخامس وما بعده الذي يأتي من هؤلاء المهاجرين، لذلك كان من الجهاد اللازم إعداد العدة الصحيحة لتربية طفل مسلم في المهجر، فهدايته هداية وثبات لمن بعده، وأجر - بإذن الله- لمن تسبب في ذلك .
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن