بكالوريوس في الهندسة المدنية (1981). يتقن اللغة الإنكليزية بدرجة ممتازة كتابة وتحدثاً (شهادة جامعة متشيغان، 1976)، بالإضافة إلى الألمانية والتركية: إلمام بالقواعد وممارسة بسيطة. يعمل في عالم الكتاب: التحرير والترجمة والنشر. مؤلفاته المنشورة: "علي الطنطاوي أديب الفقهاء وفقيه الأدباء" (2000)، "110 نصائح لتربية طفل صالح" (2002)، "33 مشكلة في تربية الأولاد" (2008). أما الترجمات المنشورة: "موسوعة الأجيال" (10 مجلدات) (2004). بالإضافة إلى قيامه بنشر 6 كتب الشيخ علي الطنطاوي بعد وفاته (مما لم يُنشَر في حياته) وأعاد إصدار أكثر كتبه القديمة بتحقيق جديد.
من الثورة إلى الدولة
طال طريق الثورة، وها نحن نقترب من نهاية سنتها الخامسة ونهمّ بالدخول فيما وراءها*، ولا ندري كم يبلغ ما وراءها، وما نزال ننتظر أن يجود علينا الزمان بمَخرج من الحالة التي نحن فيها، نحسب أنّ الزمن وحدَه كفيلٌ بالعلاج، أو أن من شأن عمل محدود (كتوحيد الفصائل) أن يُنهي مشكلاتنا ويكلل ثورتنا بالنجاح.
وهذا وَهْمٌ كبير، فإن أي تغيير محدود في أدواتنا الحالية لن يغيّر حالتنا تغييراً حقيقياً ولن يحقق لثورتنا الانتصار، لأن ما بقي من الطريق لا يشبه ما مضى منه، فثورتنا أشبَهُ بسفينة أبحرت في عُرض بحرٍ لجّي هائج، وهي لا تستطيع أن تقف وسط البحر فيبلعها الموج، بل لا بد لها أن تصل إلى ميناء آمِن، فإذا وصلت وألقت مراسيها وانتقل الناس إلى البرّ فلا حاجة لهم بها من بعد.
إذا كانت الثورةُ سفينةً في بحر هائج فإن الدولة بناءٌ على بَرّ آمن. تختلف طبيعة المرحلة وتختلف أيضاً أدواتها ويختلف رجالها، فلا السفينة التي نبحر فيها في بحر الثورة هي الأداة التي نستطيع أن ننطلق فيها في بَرّ الدولة، ولا ربان السفينة هو ذاته الذي يستطيع أن يقودنا في مرحلة الدولة بالضرورة.
هذا الفرق الجوهري لم يدركه أكثر ثوارنا بعد، فما نزال نفكر بعقلية الفريق الذي استطاع أن ينجز المرحلة الأولى والذي يصرّ على قيادة المراحل اللاحقة. لم ندرك أنّ بنية الدولة تختلف عن بنية الثورة، لم ندرك أن الثورة "بناء شعبي عسكري" وأن الدولة "بناء مدني سياسي"، وأن الانتقال بينهما لا يتحقق تلقائياً، إنما يتحقق بإصلاح طريقة تفكيرنا وتغيير أسلوب العمل وأداوته.
* * *
إننا لن نستطيع وراثة نظام الأسد ما لم نقدّم نظاماً بديلاً ينقلنا من حالة الثورة إلى حالة الدولة، ولن نستطيع أن نعبر الفجوة الكبيرة الخطيرة بين الثورة والدولة إلا بالتخلي عن "المؤسسات الفصائلية" المبعثرة المفرقة وإنشاء مؤسسات الدولة الجامعة. لا ريب أن المعوقات التي تعوق هذه النقلة المهمة كثيرة جداً، ولكي لا أطيل سأركز على أكثرها أهمية، وهي -في جوهرها- معوقات نفسية وفكرية وليست صعوبات حقيقية عصية على العلاج.
1- "الفصائلية" أو الانتماء المنهجي
ما زالت فصائلنا إلى اليوم تدير ثورتنا بعقلية فصائلية. إن العقلية الفصائلية تهزم مشروع الثورة، ومن باب أَولى أن تهزم مشروع الدولة. الثورة لا تستطيع أن تصمد أمام التعصب للفصيل والتعصب للمنهج، وهذا ما نجده على الأرض حتى الآن: ثورة مشتّتة مقطعة الأوصال لأن أصحابها متمسكون بمشروعاتهم الجزئية الصغيرة على حساب مشروع الثورة الكلّي الكبير. إن العصبية الفصائلية التي أضعفت الثورة وفرّقتها أشتاتاً لا يمكن، لا يمكن أبداً أن تنجح في بناء دولة وإنشاء نظام جديد يرث النظام القديم.
2- تملّك الثورة
"نحن وهُم". نحن الذين صنعنا، لن نسمح لهم بأن يسطوا على منجزاتنا! مَن نحن ومَن هم؟ أنحن صنعنا لنُذكَر ونُشكر أم لنؤجَر أم لنوصل هذه السفينة إلى برّ الأمان؟ إن كان للذكر والشكر فمَن حصل عليهما فقد ظفر، وإن كان للأجر فالأجر عند رب السماء، وإن كان لكي نقود السفينة إلى البر الآمن فعلينا أن نتخلى عن "منطق المُلكية" لأننا لا نملك الثورة أصلاً.
إن الفصائل لا تتجاوز -في أكثر التوقعات تفاؤلاً ومبالغة- مئتَي ألف، والذين يحق لهم أن يمتلكوا الثورة ويمثّلوها يزيدون عن عشرة ملايين من أحرار سوريا الذين دفعوا الثمن، الذين سُجنوا وعُذّبوا وشُرّدوا وهُدّمت بيوتهم وقُتّل أولادهم. أولئك كلهم يملكون الثورة ومن حقهم أن يكون لهم فيها رأي ورؤية وقرار واختيار، وليس من حق مئة ألف أو مئتَي ألف أن يحتكروا ملكية الثورة بمنطق "نحن وهُم" فقط لأنهم هم حَمَلة السلاح.
3- رفض التشاركية
أكثرنا لا يملك إلى اليوم الاستعداد النفسي والفكري للتشارك مع الآخر. إن الدولة أكبر بكثير من الفصيل أو الجماعة، الثورة ذاتها عجز عن حملها فصيل بمفرده، ولن يستطيع، رغم أن أكثر الفصائل الكبرى ما تزال تعيش في هذه الأحلام والأوهام، فيظن الواحد منها أنه قادر بمفرده على تحقيق الانتصار، فيقاوم جهود التوحيد ويرفض صهر المؤسسات الصغيرة في مؤسسات الدولة الجامعة.
لقد صارت هذه من الأحلام الكبرى: أن نجمع أهل الثورة على الثورة. إن الثورة لا يمكن أن تحقق هدفها بلا تشاركية، وهي جزء صغير من الطريق الطويل، فكيف بالدولة؟ هل يمكن أن تُبنى إلا بتشاركية حقيقية؟ إن الدولة هي الوعاء الجامع لأهل البلد جميعاً، فهي تضم الإسلاميين وغير الإسلاميين وتضم أهل الطوائف والأديان والأعراق المختلفة، وهؤلاء كلهم سيشاركون في بناء الدولة. الدولة في سوريا كان يحملها قبل الثورة ملايين، ونحن بحاجة إلى إعادة استيراد أولئك الملايين لبناء الدولة الجديدة.
* * *
الخلاصة: لقد بتنا أخيراً في حاجة ملحّة إلى مشروع إنقاذ جذري بعيداً عن الترقيع والتجميع. علينا أن نعيد هيكلة الثورة لإنتاج بنية ثورية جديدة تصلح أن تكون جسراً بين حالة الفصائلية الراهنة ومشروع الدولة المستقلة الذي نحلم به، وهذا المشروع الطموح لا يمكن تنفيذه بتجميع الكيانات القائمة -عسكريةً وغيرَ عسكرية- بصورتها الراهنة، فلو أننا اقتصرنا على التجميع فسوف نعيد إنتاج الحالة الحاضرة بأسماء جديدة فحسب.
إن "إعادة هيكلة الثورة" عملية جذرية تحتاج إلى شجاعة وجرأة وإخلاص، وقد تتسبب في تفكيك جزئي لبعض المؤسسات الثورية الحالية وإعادة تركيبها في كيانات جديدة، على أن يُراعَى في هذه العملية ضابطان رئيسيان: (أ) فك الاشتباك بين المؤسسات الثورية المختلفة والفصلُ بين السلطات العسكرية والمدنية والقضائية. (ب) إعادة توزيع الكوادر البشرية على المؤسسات الثورية حسب الكفاءة والخبرة والاختصاص.
إن هدف "إعادة هيكلة الثورة" ليس حل الكيانات الحالية ودمجها في كيانات موحدة، فقد ثبت أن هذا الإجراء مستحيل على مستوى الفصائل العسكرية والمؤسسات الثورية غير العسكرية على السواء، ولن يؤدي السعي في هذا الاتجاه إلاّ إلى إضاعة المزيد من الوقت الثمين. إن ما ينبغي أن نسعى إليه هو إنتاج "أجهزة ثورية مركزية" من خلال اجتماع المؤسسات الثورية على مبدأ الشراكة والتنسيق والتعاون الطوعي، وصولاً إلى كيان ثوري وطني جامع يقود الثورة السورية ويقضي على حالة التشرذم والشتات.
مهما طال الزمن تبقى الفصائل فصائل، فإنّ أقصى ما يمكن أن تصل إليه "الحالة الفصائلية" لن يزيد عن مناطق نفوذ مبعثرة، أما "الأجهزة الثورية المركزية" فإنها نواة صالحة لإنشاء دولة، فهي يمكن أن تتحول لاحقاً إلى مؤسسات الحكم في الدولة المستقلة المرجوّة.
إن الثورة تملك ما يكفي من الكفاءات لتكوين "الأجهزة الثورية المركزية" المطلوبة، لكن كثيراً من تلك الكفاءات ما يزال محجوباً بسبب "احتكار السلطة" الذي مارسته الفصائل، وقد آن الأوان لتدرك هذه الفصائل أن الثورة أكبر منها بكثير؛ إنها مشروع كبير لولادة دولة كاملة، وهو من الضخامة والثقل بحيث يحتاج إلى أعداد هائلة لحمله ونقله من عالم الأحلام إلى عالم الوجود.
_______________
* هذه المقالة جزء من "ورقة" قُدِّمَت في "الندوة التشاورية الخامسة" التي عقدتها هيئة الشام الإسلامية في إسطنبول في شباط 2016، وقد عرضتُ فكرتها الرئيسية بتوسع في مقالة نشرتها السنة الماضية بعنوان "ما بعد الفصائليّة: من الثورة إلى الدولة"، اقتبستُ خلاصتَها وضممتها إلى هذه المقالة (من "الخلاصة" إلى آخر المقالة)، من أحب الاطلاع عليها كاملةً سيجد رابطها في التعليق الأول.
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة