أشجَـار الشِّتـاء
سرتُ قربَ أشجار الشِّتاء، كانت غريبة المنظر، لا تُشبه أحوالَها في أيِّ شتاءٍ مضى، ضعيفة لكنَّها شامخة، عارية من الأوراق لكنَّها حسْناء، أغصانُها سهلة الكَسْر، لكنَّ جذورها عميقة في التُّربة.
أطرَقْتُ قليلاً أستعيد صورة قديمة لَها أيَّام الرَّبيع،
حين كانت تَبْدو كأطفال صِغَار يَلْبَسون ثياب العيد، يَزْهون بِها، يَحتفي برؤيتها كلُّ البشر، ويتسابقون لتأمُّلِها والتغزُّل بِجمالِها، وهي في أوج المَجد والحُسْن، والقوَّة والعطاء...
وكانت مقارَنة الصُّورتين أليمة!
تَماماً كمقارنة الشباب بالكِبَر، مرحلة تضِجُّ بالحيوية والعطاء والجمال،
وأخرى تُنحِّيها أفكار الناس السَّاذجة رغماً عنها، فتُقصيها عن الفاعليَّة في الحياة!
خُيِّل لي أنَّ الشجرة المهيبة الماثلة أمامي شيخٌ هرم، قد كسا رأسَه البياضُ،
وحفرت الغُضون في وجهه طُرقاً متفرِّعة، وَهنَ جسَدُه، وأُرهق عقْلُه،
وباتتْ خطواته ثقيلة، حكاياته معادة، ذكرياته مُملَّة، يُجامله السَّامعون بابتساماتٍ ساذجة،
يهزُّون رؤوسهم لِيُوهِموه بأنَّهم متابعون وعقولُهم تَجولُ في فضاءات بعيدة،
منهم مَن يُطْلِق هَمْسة عَجْلى؛ لعلَّ أحداً لا يتنبَّه إليها،
وآخَر يُطلق ابتسامات ليُخبِر الجميع أنَّ الخبَر الآتي قديم، وقد أعيد للمرَّة العاشرة،
وبعضهم لا يتمالك نفسه فيضحك علناً، وقلَّة تبقى تتشاغل بِجَريدة خاوية المضمون،
أو مجلَّة فارغة المحتوى، أو هاتف جوّال قد استَصرخَت أزرارُه من الضَّغط عليها،
وتَمنَّت لو أُعتقت وتحرَّرت من قسوة الأصابع وبطشها، وهو... ذاك الجبل المَهيب الرَّاسخ،
يُتابع سرْدَ حكايته بكلِّ لُطف، متجاوزاً أو متجاهلاً أو غافلاً عن كلِّ ما يدور حوله،
قد أرهق ذاكرته كثيراً لِيَصل إلى حدثٍ كان قد نسيه، وحين تذكَّره وبات يسرده بِحَماس
وجد الوجوه مغلقة، والعيون مُطْفأة، والقلوب تغطُّ في سُبات، فبات يُؤْثِر الصمت، والصمت فقط! حين لا تَحْمِله قدَماه لِيَسير خارجاً، ومهما اشتاق لضجيج الشَّوارع، لمنظر الزَّهر في الحدائق، لِشُموخ المآذن، فذلك ليس بالإمكان، فما عاد الجسم يَخْدمه، وتواطأَتْ معه الذَّاكرة،
فأحسَّ بضياع أغلى ما يَملك!
حين أمر اللهُ تعالى الإنسانَ بالإحسان إلى الوالدين، {وبالوالدين إحسان}
كان لِوَقْع كلمة (إحسان) داخل النَّفْس أثرٌ كبيرٌ. الهمزة تنطقُ بقوَّة؛ لئلاَّ يتراخى أحدٌ في أداء المهمَّة، والحاء تخرج بحنان وتنطقُ بحب؛ فكأنَّ المشاعر تُنْطِقها،
والسين تُشعرك بسلاسة المهمَّة، وكونِها أمراً يسيراً غير متكلَّف،
والمدُّ يتبدَّى بشموخ يَهَبُك جلال الوظيفة وجَمالها، والنُّون تحتضن الشُّعور، تحيط تفكيرك بجمال، فكأنك تحتضن والدَيْك كلَّما أحسَنْت في معاملتهما أكثر...
فليس الأمر مُجرَّد أداء واجب، ولا تسديد دَيْنٍ فحسب، إنَّما هو أمر بالإحسان،
بتقديم الأجْمل والأروع والأفضل، لأغلى كائنين على الإطلاق.
وحين تقرأ {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} (الإسراء: 23)، أتعلم ما يُراودك بقوله: (عندك)؟! أجَل،
إنَّه سِنُّ الضَّعف والوهن، هو الذي يَحْرُمُ كبار السنِّ من الاستقرار والاستقلال كما كانوا من قبل، مِمَّا يجعله ضروريّاً أن يُقيما في بيت الأبناء، وكلمة (عندك) تُقَلِّد القارئ المتدبِّر الأمانة، فهو مسؤول رئيسيٌّ عن والِدَيْه، وهُما اليوم عنده، ومصيرهما محدَّد بمصيره، مِمَّا يجعل الاهتمام ضروريّاً ومضاعفاً.
{فلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
وكم يتذمَّر الناس من الضَّعف! كم ينبذونه وينفرون منه!
حالهم مع أيِّ إنسان ضعيفٍ يواجِهُونه في الحياة. فقد جُبلوا على حُبِّ القوة،
والنُّفور من الضَّعف، فماذا إنْ أُجبِروا على التَّعامل مع هذا الضَّعف، وقُلِّدوا مهمَّة الاعتناء بذلك الإنسان الضَّعيف، وهم في قمَّة القوَّة والشباب والعطاء الذي يورث الانشغال؟
لا شكَّ أن كلمة (أُفٍّ) قد تصدر بطريقة أو بأخرى؛ نطقاً مرَّة، أو إحساساً بها مرَّة أخرى،
وها هي الآية تأتي لتُشدِّد على أخلاقيَّات التعامل، وتَمْنع من التبَرُّم والتضجُّر،
فكم جَرَحت هذه الكلمة من مَشاعر! وكم أشعرت الإنسان الضعيف أنَّ مصيره مرتبط بِهذا القويِّ الذي سُخِّر لخدمته، وهي تُشْعِره أنَّه يَزْداد ضَعفاً، ويسبِّب لفِلْذة كَبِدِه الضِّيق،
وقد يتمنَّى لو قُبِضت روحه وما سَمِع ولدَه يتأفَّف من خدمته التي اضْطَرَّه ضعْفُه إلى طلبها!
ولعلَّ أكثر من يتعاملون مع كبار السِّنِّ يُدْرِكون أنَّهم يتصرَّفون في أوقات كثيرة كالأطفال،
لا يُدْرِكون عواقب أفعالِهم، ولا يُفَكِّرون في نتائجها، وقد تكون ذات ضرر عليهم،
وأحياناً يسردون أحاديث لا يعون أنَّها مُزْعِجة أو مُحْرِجة لأولادهم،
وهنا يأتي مُجدَّداً الأمر الإِلَهي: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}، يتبعه مباشرة قوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}، مِمَّا يتطلَّب ترويض النَّفس على الصبر والهدوء، والتنبُّه للألفاظ، فلا ينطق إلاَّ حسناً،
ولا يقول إلا خيراً.
وبعدها يأتي خفض الجناح، والعطف، والحنان، والرَّحْمة:
{واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}، مزيجٌ رائع من المشاعر الطيِّبة،
وتوافُق عظيم لأروع الأخلاق في التَّعامل مع الوالِدَيْن، فالرَّحْمة هي الدافعة لإبعادِ «أُفّ»،
ولتنحية التضجُّر والاعتراض، والرَّحْمة دافعة إلى الإحسان، بل إلى التميُّز بالإحسان.
وأخيراً، يبقى الدُّعاء{وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}، دعاء قلب يَخْفق بكثيرٍ من الحب والامتنان والوُدِّ، دعاء مؤمن يحمل أغلى الذِّكريات، وأجمل الحنين إلى بسمة أُمٍّ وعطف أبٍ،
دعاء بالشِّفاء والقوَّة والعافية تارة، والمغفرة والرَّحْمة وبلوغ الجنَّة تارة أخرى.
دعاء قلب مؤمن يتضرَّع لمولاه أن يُعينه في تأدية مهمَّته كما يحبُّ، وأن يقوِّيه على مُحاولة سداد شيءٍ من ديونٍ تراكمَتْ عليه من والِدَيه، ومهما فعل فلن يستطيع تأدية بعضها!!
دعاء لشجرة شتائيَّة قد وهبَتْ ثَمرها كلَّ الغذاء اللاَّزم لِيَنضج ويحلو، ويُكْمِل مسيرته على هذه الأرض، بأن يُسبغ الرَّحْمن عليها دفء رحماته، ونور رضوانه، وأن يورق قلبها بسعادة مَحبَّته، وأن يَمُنَّ عليها بدخول جنَّتِه، وهو الرَّحْمن المحسن الكريم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة