السنوار... رسالة الرمق الأخير
لا يزالُ ذلك المشهد بارزًا في الذهن لا يفارقه رغم مرور أيّام عدّة عليه، وربّما سيبقى لأمدٍ طويل حديثَ الأجيال، تذكُرُه فتفيضُ بمشاعرَ يمتزجُ فيها الحزن بالفَخار. حزنًا على صاحب المشهد_ يحيى السّنْوار رحمه الله_ الذي قُتل وسطَ نصف مليارٍ من بَني جلدَته، لم يستطع أحدٌّ مناصرَته وقومَه، ولو بالكلام... وفَخارًا به إذْ أفرغَ في جُعبة التاريخ درسًا في الكفاح وهو يصارع الموت في الرمق الأخير. يقرؤه مَن يأتي بعده وهو مرفوع الرأس.
نهايةٌ لم يكنْ ليتوقّعها أحدٌ، وثّقَ أحداثَها جنديٌّ صهيونيّ بكَمرته، ونشرها ليبشّرَ قومَه بمقتل مَن كان ذِكرُه يقُضّ مضجعهم، بُغية رفع معنويّاتهم المنهارة.
نهايةٌ لم تَخُر فيها قُواه ويستسلم حتى وهو يذوق الموت على يد عدوّه الجبان، الذي ما جَرُؤ على مواجهته إلّا بعد مُضيّ ساعات؛ استعمل فيها المدفعيّة والمسيّرة وهدْم المكان..
نهايةٌ استدعتْ للذاكرة مواقفَ الشجاعة التي تحلّى بها الرجل في حياته، منها أنّه تحدّى الكيان _مباشرة على الهواء_ أن يقصفَه في مكانه الذي هو فيه أو وهو خارجٌ في الطريق، وأمهله ساعة كاملة، وقال كلمته المشهورة آنذاك "ولن يرمشَ لي جَفن". وقد ظهر وهو يمشي غير واجلٍ ولا خائف، في هيئة مَن يحبّ الموت كما يحبّ الحياة.
أمّا اللافت الذي يصعُب تجاوزه، هو ما نقله المشهد الأخير من حياته، فبعد أن أنهكَه التّعب في جولةِ قتاله مع العدو جلس على أريكةٍ يضمّد جراحَ يده اليمنى التي أُصيبت، ففاجأته مُسيّرة استكشافية أرسلها العدوّ الجبان فتناول بيده اليسرى عصًا ورماها في وجه المسيَّرة قبل أن يسلّم الروح باريها، فكان هذا المشهد تبرئةً له ورسالةً لمن بعده، تبرئة له ممّا أُلصق فيه ظلمًا مِن قِبل الذباب الإلكتروني وبعض الأبواق المأجورة بأنّه مختبئٌ في خندق آمن، تحيطُ به رهائن العدو التي اتّخذها دروعًا يؤمّن بها حياته، تاركًا أهل غزة يواجهون الموت تحت الأنقاض وفي الخيام، فكان هذا المشهد دحضًا لهذا الادّعاء، وقطعًا لألسنة المنافقين..
ورسالة لمن بعده، من سطورها الناصعة: ألّا يحبسَ الإنسان نفسَه في أسْرِ أنانيّته، فيعيش ويموت لنفسه، بل عليه أن يخرج من دائرة الأسر الذاتي إلى فضاء الغير، يُوصِل خيرَه الناس، يحمل أحلامَ أمّته إلى قبره، لا ييأس ولو كان في الرمق الأخير.
ومن سطورها أنّ السائرَ على طريق الحقّ بثبات، الباذل نفسَه وجهده في سبيلها هو المنتصر، وأنّ الشرفَ والثواب في الطريق كلّها، سواء وافته منيّته في أوّلها أو في آخرها.
ومن سطورها أن تستنفد طاقة الخير التي فيك كلّها، فإن كانت كلمةً طيبةً على لسانك فانطقها، وإن كانت دمعةً بين يدي خالقك فاذرِفْها، وإن كانت فسيلةَ خير فلا تمُت حتى تغرسها، وإن كانت الرصاصة الأخيرة ففي وجه عدوّك المحتلّ أطلقها، ولو دبَّ الموتُ إلى يَدك فحاول إن استطعت أن ترفعها، وأنت تقول: (أشهد ألّا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله).
ومن سطورها أنّ الغاية إعمارُ الأرض وإعزاز الدين ورفع رايته عالية خفّاقة، وإحدى وسائل هذه الغاية هي الشهادة، فالدماء الزكيّة التي تسيل على الأرض لا تذهب هباءً فيها، إنّما تسقيها لتعلوَ أشجار النصر وتنبتَ أزاهير العزّة والشموخ.
ومن سطورها التذكير بأنّ الجنّة حقٌّ وأنَّ النار حقٌّ، وأنَّ هذه الحياة ممرٌّ قصير للآخرة، وكلّ مَن يقف عليه يلهّي القادِمين، ويزيّن لهم الدنيا ومُتَعها، ويحجُبُهم عن رؤية أضواء طريق الجنّة، هو شيطان إنسيٌّ يُستعاذ منه.
وآخرُ سطرٍ لك أيّها القارئ أن تعلم أنَّ القدوات تموتُ من أجل أن تحيا عزيزًا مكرّمًا، ومن أجل أن تخطُوَ خطاهم، وأنّه يؤلمهم وينغّص عليهم أن يعرفوا أنّك يئِست بعد فَقدهم، وأصابك الإحباط، وأنّك اتّبعتَ هواك وأطفأتَ نور الهداية في قلبك، وأنّك بدّلت بعد موتهم وغيّرت، وخُنتَ عهدَ الله في قوله جلّ وعلا: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
الكلمات الدالة : القائد القدوة المشهد الأخير عدو جبان نهاية يحيى السنوار غزة انتصار جهاد طوفان غزّة أمّة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة