ما يُفيد في الإكتئاب
أخيرا وبعدَ حديثٍ طويل عن #ما_لا_يُفيد_في_الاكتئاب، سأبدأ الحديث عمّا يُفيد، وسأبدأ بممارسة الرّياضة، وهذا اختيار مقصود لعدّة أسباب، من أهمّها أنّ ممارسة الرياضة تُفيد الجميع، بدءا ممّن لا يُعانون من أيّ اكتئاب مرورا بمن يُعانون من اكتئاب طفيف ومتوسّط إلى من يُعانون من اكتئابٍ شديد ..
بطبيعة الحال، أن تقول لأيّ شخص، فضلا عن مُصابٍ بالاكتئاب، أن يُمارس الرياضة لن يؤدّي لنتيجة في أغلب الأحيان، ولذا فالموضوع يحتاج معالجة أعمق، أحاول أن أُجمِلَها في نقاط:
1- لدى المكتئبين وكثيرٍ من غير المكتئبين مشكلة عويصة، هي فقدان القُدرة على الحصول على اللّذة ممّا ينبغي أن يؤدّي إلى إليها في الظروف الطبيعية .. هناك مُصطلَح لوصفِ هذه الحالة هو anhedonia .. لكنّها ليست حالةً مُتجانِسة، فهي تعني لدى البعض عدمَ القُدرة على توقّع اللذة الناتجة من فعل شيء مرغوب، ولذلك فهُم لا يُقدِمون عليه أصلا، وتعني لدى البعض عدمَ القُدرة على الشّعورِ باللذة حتى ولو قاموا بالفعل المرغوب، وتعني لدى آخرين عدم القُدرة على تكرار الفعل حتّى ولو فعلوه وشعروا بلذّة نتيجة فعلِه، أيّ أنّهم يعجزون عن الاستفادة من اللذة في إنتاج سلوك مستمرّ ..
هناك تفاوتٌ بين البشر في العلاقة بين الفعل واللذة، لكن يغلبُ على غير المكتئبين أن تكون لذّة التوقّع والانتظار أكبرَ من اللذة الحقيقيّة الواقِعة .. هذه ظاهرة إنسانيّة عامّة، فالأشياء تفقدُ شيئا من قيمتِها وبريقِها عند إنجازِها أو الحصول عليها .. شيءٌ شبيه ب "الطريق إلى البيت أجملُ من البيت" ..
لكن كثيراً من المُكتئبين يفقدون حتّى القُدرة على توقّع اللذة، ولذا، فمجرّدُ إخبارِهم أن الرياضة ستُحسِّنُ مزاجَهم لن يفيدَهم في شيء، فهم في وضعٍ يجعلُهم عاجزينَ حتّى عن تخيّلِ أنّهم يُمكن أن يشعروا بمزاجٍ أفضل، فضلا عن انحطاط الطاقة الذي يُسبّبُه الاكتئاب ..
أحدُ الحلول الناجعة لهذه المُعضِلة هو التّالي: اعمل جدولا بأيّام الأسبوع، واقسم خانة كلّ يوم إلى نصفَين، أحدهُما تُسجّل فيه اللذّة المتوقّعة من الرياضة قبلَ ممارستِها، والآخر تُسجّل فيه المتعة الحقيقيّة التي شعرتَ بها أثناء الممارَسة .. كيف تُسجّل مقدار اللذة؟ فكّر في مقياس أو range من صفر إلى 10، بحيث تعني 10 أكبرَ لذّة يُمكنُك تخيّلُها، ويعني الصفر انعدام اللذة تماما .. قبل الرياضة، اسأل نفسك، ما هو مقدار اللذة التي اتوقّعُها من الرياضة اليوم حسب هذا المقياس؟ قد تكون 3 من 10 مثلا .. مارس الرياضة، وسجّل اللذة التي شعرتَ بها فعلا .. في الأغلب الأعم، يجدُ المكتئبون أنّ لذّتَهم الواقعة أكبر من المتوقّعة، وحين يستمرّون في تسجيل ذلك خلال الأسبوع، يتعلّمون أن يتغلّبوا على غيابِ توقّعِ اللذة، لأنّهم يعرفون من تجربتِهم الخاصّة أن اللذة أكبرُ ممّا توقّعوا ..
هذا الجدول قد لا يقتصرُ على الرياضة، بل يُمكنُ إضافة نشاطات مختلفة إليه، مثل الأكل والقراءة والخروج من البيت وأيّ شيء ..
2- الدّراسات بخصوص فائدة ممارسة الرياضة في الاكتئاب متنوّعة ومتفاوتة النتائج، لكنّ النتائج تتراوحُ من فائدة بسيطة إلى فائدة توازي الحصول على جلسات نفسيّة أسبوعيّا من مختصّ في العلاج النفسيّ .. وأكثرُ المراجعات التي اطّلعتُ عليها للدراسات التي بحثتِ الموضوع وجدت أنّ نسب الانسحاب من الدراسات dropout التي تبحث في أثرِ الرياضة على الاكتئاب لا تختلف عن الانسحاب من العلاج النّفسيّ أو الأدوية .. هذا مؤشّرٌ مهمّ جدا، إذ يعني أنّ ممارسة الرياضة بشكلٍ منتظَم ومُقنّن ومتواصل لم يكن أصعب على المكتئبين من أخذ الأدوية أو الالتزام بجلسة علاجيّة أسبوعيّا .. هذا مهمّ لأنّ الرياضة هي الفعل الأكثر ذاتيّة وتطلّبا للجهد من طرف المصاب بالاكتئاب ..
3- يبدو أن ممارسة الرياضة تكونُ أكثرَ ما تكونُ فائدة في الاكتئاب الطفيف والمتوسّط .. هذا مهمّ لأنّ هؤلاء هم الأكثرُ ترددا بخصوص مراجعة طبيب أو أخذ دواء -والأدوية أقلّ فائدة لهم من المصابين باكتئاب شديد- ولذا فهناك علاج متيسّر وممكن: الرياضة ..
4- فضلا عن التغيّرات الإيجابيّة في مقاييس الاكتئاب، يشعرُ المكتئبون بشعورٍ إيجابيّ تجاه الرياضة لأسباب مختلفة، من بينِها أنها تمنحُهُم شعورا بالغاية، وتصرفُهم عن التفكيرِ السلبيّ، بالإضافة إلى شعور بأنّ شيئا "بيوكيميائيّا" جيّدا يحدثُ في أجسامِهم عندما يُمارسون الرياضة ..
5- من المهمّ عند الحديث عن ممارسة الرياضة الحديث عن بيئة قد تكونُ شديدة الإيذاء، ألا وهي ال"جيم" .. مشكلة ال"جيم" أنّه بيئة قد تُثيرُ مشاعرَ سيّئة لدى المكتئب، فهذا قادمٌ ليُبرزَ عضلاتِ كتفيه وبطنِه ويُغريَ الفتيات، وهذه قادمة لتجعل خصرَها أكثرَ انحناء، فيما المكتئب والمكتئبة قادمان ليتغلّبا على الاكتئاب! .. هذا يُزعجُ كثيرين حتى من غير المكتئبين إلى درجة أنّك يُمكنُ أن تجد ال"جيم" في الولايات المتّحدة يذكرُ في دعايتِه أنه Judgement-Free Zone أو أنه خالٍ من ال Gymtimidation أي يحاولُ القائمونَ عليه ألا يُشعرك المحاربون القُدامى في الجيم بالنّقص أو يهيمنوا على السّاحة ويتركوك تنتظر دورك دائما بخجل!
من المهمّ عدم ربط ممارسة الرياضة بال"جيم" وبيئتِه النّفسيّة، وهذا ربطٌ شائع ومنتشِر، فكثيرون يعتبرون أنفسَهم أو غيرَهم غيرَ جادّين في الرياضة إذا لم يذهبوا لمكان مخصّص ويدفعوا مالا .. هذا خطأ، فهناك رياضات أخرى وطرقٌ أخرى وأجواءٌ أخرى، والاستعانة بأصدقاء في ترتيب الموضوع والمواظبة عليه تُفيد كثيرا ..
6- لا أعلم إن كان هناك بيانات تجريبيّة تسندُ ملاحظتي، لكن ألاحظُ أنّ فكرة دفعٍ مبلغ من المال لضمان الالتزام بالرّياضة لا تعمل .. إذ يبدو أنّ المكافأة الإيجابيّة على ممارسة الرياضة -أن تكافئَ نفسكَ بشيءٍ محبّب- أفضل من ممارستِها لتجنّب نتيجة سلبيّة -ضياع المال بلا جدوى- .. بل قد يُصبحُ المالُ الضّائع سببا جديدا لضعف الثّقة بالنّفس والشّعور بالعجز ..
7- ساد اعتقادٌ لفترة طويل بأنّ الخلايا العصبيّة تتوقّفُ عن التجدّد Neurogenesis لدى البالغين .. هذا اعتقادٌ ثبتَ بطلانُه، فالخلايا العصبيّة تتجدّد لدى البالغين وكبار السنّ إلى أجلٍ غيرِ محدّد، على الأقلّ في منطقة ال hippocampus في الدّماغ، وهي منطقة كثيرة الوظائف والارتباطات ومنها الذاكرة والتعلّم .. لدى المكتئبين ضعفٌ في نشاط هذه المنطقة، والدّراسات تُظهرُ أنّ الرياضة، خصوصا الرياضة التنفسية غير الشديدة aerobic exercise مثل الجري متوسّط السرعة واستخدام أجهزة ال"تريدميل" وال "إيليبتيكال"، تزيد من تجدّد الخلايا العصبية في هذه المنطقة بالذّات ..
تخيّل أنّك يُمكنُ أن تُجدّد الخلايا العصبيّة في دماغك من خلال الرياضة، وأنّ هذا قد يُحسّنُ ذاكرتَك وقدرتَك على التعلّم! هذا سببٌ أكثرُ من كافٍ لممارستِها، فضلا عن تغيّرات إيجابيّة هرمونيّة وتركيبيّة وفي الأوعيّة الدمويّة في الدماغ تتحدّثُ الدراسات عن أن الرياضة تُسبّبها ..
8- هناك نظريّات كثيرة بخصوص الطريقة التي تؤدّي بها الرياضة إلى تحسّن المزاج والصّحة النفسيّة عموما، من بينِها أنّ الرياضة تخفّف الالتهابات في الجسم، والارتباط بين الالتهاب والكتئاب موضوعٌ تتزايدُ أهميتُه وتتكاثرُ أبحاثُه كلّ يوم، ومن بينِها أنّ الرياضة تقللّ هرمون الكورتيزول المرتبط بالتوتّر، ومن بينِها أنّ الرياضة تزيد النواقل العصبيّة التي تُحسّنُ المزاج .. مهما كانت الطريقة، فالأثر النّفسيّ الإيجابيّ للرياضة معروفٌ ومُشاهَد ومُثبَت ..
9- حسب التوصيات البريطانيّة، فما يُنصَح به هو 45 دقيقة إلى ساعة ثلاث مرّات أسبوعيا لمدة 10 إلى 14 أسبوعا .. من المنطقيّ توقُّعُ نتائجض أفضل كلّما زادت المرّات أسبوعيّا وامتدّت المدّة ..
#ما_يُفيد_في_الاكتئاب
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن