كاتب متخصص في مجال اللايف ستايل، ومهتم بقضايا ريادة الأعمال.
هل العمل بدوام كامل يضر أدمغتنا؟
زادت العديد من البلدان سن التقاعد عن العمل حتى يُصبح مواطنوها مؤهلين لبدء تلقي المعاشات أو الرواتب التقاعدية؛ فيبلغ متوسط سن التقاعد عن العمل عالميًا 65 عامًا؛ حيث تمتلك "إندونيسيا" أقل سن للتقاعد عن العمل، فيتقاعد مواطنوها عند سن الـ58 عامًا، بينما يتقاعد مواطنو "بنغلاديش" عند سن الـ59 عامًا. في الوقت الذي تعتبر كلٌّ من "إسرائيل"، و"اليونان"، و"أيسلندا"، و"النرويج" أعلى دول العالم من حيث سن التقاعد، فيتقاعد مواطنوهم عند سن الـ67 عامًا.
ادّعت بعض الدراسات السابقة أن تأخير سن التقاعد قد يساعد في الحد من تدهور الأداء الإدراكي والمعرفي للموظفين؛ بسبب التحفيز الفكري المستمر الذي توفره بيئة العمل. لكن بعض الدراسات الحالية لم تصل إلى وفاق مع ما توصلت إليه الدراسات السابقة. فكشفت الدراسات الحديثة أن تأخر سن التقاعد يؤثر تأثيرًا سلبيًا على القدرة الإدراكية للأفراد، ويؤدي إلى تدهور مهاراتهم المعرفية. وبالرغم من تقديم الدراسات السابقة لمعلومات هامة حول العلاقة بين سن التقاعد والوظائف الإدراكية للأفراد، إلا أنها لم تقم بدراسة العلاقة بين العمل -كمًا وكيفًا- وبين الوظائف الإدراكية.
ساعات العمل.. تُحفز نشاط الدماغ أم تثبطه!
قد يكون العمل سلاحًا ذا حدين، فقد يُحفز نشاط الدماغ؛ لكن -في الوقت نفسه- قد يُثبطه. فتؤدي بعض أنواع المهام، أو ساعات العمل الطويلة إلى التعب والإجهاد الذي يلحق الضرر بالوظائف المعرفية والإدراكية. فدرجة التحفيز الفكري للعمل قد تعتمد على نوع العمل، وكيفيته، وعدد ساعاته، ونوعية المهام المطلوبة. وبالرغم من أهمية التعرف إلى العامل الأساسي الذي يحدد تأثير ساعات العمل على قدرة الفرد الإدراكية بالإيجاب أو السلب، إلا أنه لا يوجد إلا عدد قليل للغاية من الدراسات التي ناقشت هذا الموضوع.
قامت إحدى تلك الدراسات، والتي تمت عام 2009 بدراسة العلاقة بين ساعات العمل الطويلة والمهارات المعرفية للأفراد في منتصف العمر عن طريق اختبار الذكاء؛ حيث أوضحت النتائج أن اختبارات الذكاء كانت أقل نسبيًا بين العمال الذين يقومون بالعمل لساعات طويلة، وأشارت الدراسة أن ساعات العمل الطويلة قد يكون لها أثر سلبي على إدراك الأفراد في منتصف العمر. لكن لم تتعرض الدراسة إلى مقارنة مستوى المهارات المعرفية بين الموظفين وغيرهم، أو بين الأشخاص في منتصف العمر وكبار السن. لذلك كان من الضروري دراسة تأثير ساعات العمل على الأداء الإدراكي بين كبار السن، وهو ما قام به الباحثون في معهد "ملبورن" للبحوث الاقتصادية التطبيقية والاجتماعية بأستراليا.
جوهرية ساعات العمل في التأثير على القدرة الإدراكية
(
أجرى فريق الباحثين هذه الدراسة التي نشرت في فبراير العام الماضي 2016، والتي قامت بأداء العديد من اختبارات القراءة، والذاكرة، والأسلوب على أكثر من 6 ألاف عامل، تزيد أعمارهم عن 40 عامًا، ويعملون لأكثر من 20 ساعة أسبوعيًا. وذلك للتعرف على تأثير ساعات العمل على القدرة المعرفية لهؤلاء الأشخاص؛ إذ أوضحت الدراسة عن طريق استخدام نتائج اختبار الذاكرة، والخلل الدماغي للأفراد؛ أن ساعات العمل المثلى التي تؤثر تأثيرًا إيجابيًا على الإدراك؛ تتراوح بين 25 إلى 30 ساعة أسبوعيًا للذكور، بينما تتراوح بين 22 إلى 27 ساعة في الأسبوع للإناث. ويظهر التأثير السلبي للعمل على القدرة الإدراكية إذا زاد عدد ساعاته عن هذا الحد. كما كشفت الدراسة -أيضًا- أن ساعات العمل الطويلة لها نفس التأثير السلبي على الإدراك لكل من الذكور والإناث على حدٍ سواء.
فيقول "كولن ماكنزي" قائد الفريق البحثي، وأستاذ الاقتصاد في جامعة "كيو" بطوكيو، إن العمل لساعات طويلة يؤدي إلى الإجهاد البدني والنفسي، الذي قد يؤدي بالتبعية إلى الضرر بالأداء الإدراكي المعرفي للأفراد. فقد أشارت إحدى الدراسات التي تمت في جامعة "بوسطن" عام 1996، أن العمل الإضافي له العديد من الآثار السلبية على الصحة النفسية للعاملين في المصانع. وبالتالي تؤكد نتائج الدراسة التي تمت العام الماضي 2016، على أن عدد ساعات العمل يُعتبر عاملا جوهريا للحفاظ على الأداء الإدراكي لدى الأفراد في منتصف العمر، وكبار السن. كما تؤكد -أيضًا- أن الكثير من العمل يؤثر سلبًا على الأداء العقلي لهؤلاء الأفراد.
في علم النفس يتم تحليل الذكاء العام بالاعتماد على مقياسين من الذكاء؛ يُطلق عليهما الذكاء السائل، والذكاء المتبلور؛ فيتمثل الذكاء السائل في قدرة العقل على التفكير المنطقي، ومعالجة المعلومات وتحليل المشكلات، وتحديد أنماطها، والعلاقات التي تستند إليها باستخدام المنطق، وبعيدًا عن المعرفة والخبرة المكتسبة بالتعلم. بينما يعتمد الذكاء المتبلور على المعرفة الناتجة عن التعلم والخبرات السابقة، حيث يتمثل في قدرتنا على استخدام كل من المهارات التي نمتلكها، والمعرفة التي نتعلمها، وكذلك الخبرات التي نكتسبها.
وفقًا لـ"كولن ماكنزي" فإن معدل الذكاء السائل يبدأ في الانخفاض بعد سن الـ 20 عامًا، بينما يبدأ الذكاء المتبلور في التناقص بعد سن الـ 30 عامًا. لذلك وبحلول سن الـ40 يكون أداء معظم الناس في اختبارات الذاكرة والقدرة العقلية أقل مما مضى بشكلٍ ملحوظٍ. على الرغم من أن النتائج التي توصل إليها "كولن" في دراساته تشير إلى أن الاقتصاد الآن يجبرنا على العمل لفترات أطول بكثير من الأجيال السابقة، لكن عندما يكون الفرد في سن الـ40 يصبح عقله غير مصمم من الناحية البيولوجية والعاطفية لتقبل التوتر وتكرار العمل يوميًا.
العمل الصحي.. ورفاهية الاختيار
الآثار السلبية للإجهاد على العقل موثقة توثيقًا جيدًا في مجال البحوث العصبية، فيؤثر الإجهاد على الأداء الإدراكي في المقام الأول من خلال الهرمونات في الدماغ مثل؛ هرمون الكورتيزول والتوتر، وهرمونات الستيرويد، مما يؤثر على الذاكرة قصيرة المدى، والتركيز، بالإضافة إلى تثبيط التفكير العقلاني. بالرغم من ذلك، فقد يعلم الكثير بشأن التأثير السلبي لساعات العمل الطويلة على القدرة الإدراكية والمعرفية للفرد، لكن بالنسبة للكثير -أيضًا- لا يُغير ذلك من حقيقة احتياجهم لساعات العمل الطويلة هذه من أجل الحصول على الأموال التي تمكنهم من المعيشة، والتَغلب على ظروف الحياة. وبالتالي فيعتبر العمل لعدد ساعات أقل أسبوعيًا من الرفاهيات التي لا يمتلكها الكثير من الموظفين. (3)
تتميز بعض الشركات ببيئة العمل الصحية، فهناك مسابقة سنوية تتم في المملكة المتحدة بدعم من جامعة "كامبريدج" لتقديم الجوائز للشركات الأكثر صحة في المملكة المتحدة. حصلت على جوائز المركز الأول للعام الماضي 2016 كل من شركتي "فورستر للاتصالات" وشركة "سويتي بيتي" للمنتجات الرياضية. فيُعتبر استغلال الوقت المسموح به بعيدًا عن بيئة العمل فرصة لبقاء الشخص صحيحا بدنيًا. فتسمح بعض الشركات السابقة لموظفيها في ساعات العمل المرنة بمغادرة العمل مبكرًا، أو تناول الغداء بعيدًا عن المكتب والتنزه في جولة سريعة بين الطبيعة، وبعيدًا عن بيئة العمل.
وبالرغم من الدراسة السابقة التي تم نشرها في فبراير من العام الماضي 2016، تعتقد "كارول بلاك" (مديرة كلية "نيونهام" بجامعة كامبريدج، ورئيسة المجموعة الاستشارية التي تُقدم جوائز مسابقة الشركات الأكثر صحة في المملكة المتحدة) أن كبار السن ليسوا في حاجة لساعات عمل قليلة بكل أسبوع، حتى يستطيعوا العمل بشكل جيد؛ بل تعتقد أن الشيء الأكثر أهمية حول العمل هو أن يكون العمل جيدا دون الكثير من الضغوطات والمهام المُرهقة، فإذا كان العمل جيدًا، لا يهم حينها ما إن كان العمل بدوام جزئي لعدد قليل من الساعات، أو بدوام كامل لساعات طوال.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة