علمتني الدعوة
علّمتني الدعوة في ظلها أن أحيا لها وللآخرين، لا لنفسي.
وكم هذا شاقٌ على نفسﹴ تعوّدت أن تحيا لذاتها وأن يحيا الآخرون لها؟
هي تجارب مرت بي لا تجربة واحدة، جعلتني أختبر الحياة بعد أن عركتني وعركتها وأنا بعد حديثة سن.
اكتشفت خلال ذلك معادن الناس واختلاف طبائعهم وتباين أهدافهم وطرائق أعمالهم وسلوكياتهم، وألزمت نفسي التعامل مع شتى الأنماط...
كانت في رأسي مبادئ اكتشفت أن بعضها مثالي لا يطبق على أرض الواقع، فكنت – مثلاً – أعجب من داعية يخالف سلوكها بعض ما تدعو إليه، بل تشمئزّ نفسي وينفر طبعي، ولا أتقبّل هذه الفكرة على الإطلاق، بل وأشنّ حرباً لا هوادة فيها معتقدةً أني على صواب، ولم لا؟ أولست أدافع عن الحق؟ وعن المبادئ التي تربَيت عليها؟ فكيف إذاً أراها تنهار أمام ناظريّ ولا أحرك ساكناً؟
ثم شيئاً فشيئاً بدأت أتقبّل أن كل إنسان منا يخطئ، والداعية إلى الله بشر، فإذاً هي معرّضة للخطأ... أمرٌ آخر هو أنني نظرت إلى نفسي فلم أبرئ ساحتها لأنها أيضاً كثيرة الزلل، إذاً كيف أنتظر من الآخرين استيعاب زلاّتي ولا أفعل الشيء نفسه؟ وهي داعية وأنا أعمل في ميدان الدعوة إلى الله وكوني لا أتصدّر المجالس فهذا لا يجيز لي ما لا يجوز للداعيات.
إذاً عليّ أن أشتغل بإصلاح عيوبي قبل النظر لعيوب الأخريات. هذا ما توصّلت إليه من خلال عملي في حقل الدعوة الرحب. وجعلت هذه القاعدة شعاري وبدأت بتطبيقها قدر استطاعتي فمرةً يستقيم لي الأمر ومرات أتعثّر ثم أتابع بعدها المسير... وهكذا.
علمتني الدعوة في ظلها أن أحزن على من يتعدى حدوده ويكثر خطؤه ويبلغ ما يبلغه من قلة تهذيبﹴ وسوء أدب، أن أحزن عليه لا أحزن منه ولا أخاصمه ولا أجادله، لأنه لو كان لديه ما هو أفضل فلعله قدمه، أو لعله أصلاً لم يتعلم كيف يتعامل مع الآخرين، فكيف لي إذاً أن أغضب منه وهو حريٌ بأن يرثى لحاله؟
علمتني الدعوة في ظلها أن لا أكثر العتاب من اجل نفسي إلا ما ندر ووجدته يسهم في إصلاح بعض الخلل... علمتني الدعوة في ظلها أن أستعين بالصمت وأن أهرب من كثرة القيل والقال، فكم تنعّمت جراء ذلك بالهدوء النفسي، وكم أفرح عندما أراني أنأى بنفسي عن هذه المجالس... وكم أنزعج عندما أزجُ بها زجّاً!
علمتني الدعوة في ظلها أن لا أسمح لنفسي بالخوض في أعراض الناس وركوب موجة الغيبة والنميمة بحجة تقويم الأعمال وتصويب المسار، بل أجتهد ألا أسمح لمن أمامي – من النساء – بهتك غيبة إنسان مسلم بل أشير للمتحدثة بلطف أنها تقع في الغيبة وأنه يجدر بها أن تنصح أختها في الله وجهاً لوجه.
فلا تسألن أخواتي عن الراحة التي وجدتها جرّاء الزيادة في مساحة صدري، لا أنكر – والحق أقول – أني تعبت. وكم من مرة قرّرت التوقّف لوعورة الطريق ولصعوبة التعاطي مع الناس ولميل النفس عادةً إلى الدّعة، إلا أني أنهض من كبوتي بفضل الله ثم بتوجيه بعض من حولي من الصالحين وأشدّ من عزيمتي مستعينة بالله ناظرة إلى صفاقة الحياة إن لم يظلِلها العمل لله وإلى ما عند الله من جزيل المثوبة... ثم أنهض.
كل ذلك لا أدّعي أني بلغت الكمال فيه، و والله، وإنما هو التسديد والمقاربة، ورغم شعوري – أحياناً – بأني أتحامل كثيراً على نفسي التي نشِئت على التمرّد وصعوبة الانقياد، إلا أني لا زلت في البداية كطفلﹴ يحبو كثير التعثّر. أسأل الله الثبات والسداد وحسن الختام.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن