من ترك شيئًا لله
منذ وعيتُ على الدُّنيا وأنا أراها تكدُّ وتعملُ، حتَّى بلغتْ شأوًا كبيرًا في وظيفتِها، قريبتي تلك متعلِّقةٌ بعملِها إلى درجةٍ كبيرة، حتَّى لما طلب منها زوجُها تقديمَ استقالتِها من أجلِ الاعتناءِ بابنتهما الصغيرة، رفضتْ وذكَّرتْهُ بما اشترطتْ عليه في بداية حياتِهما الزوجية،
فانصاعَ لرغبتِها، ولكن بعد النَّكسةِ التي تعرَّضَ لها حينما صرفَهُربُّ العملِ عن وظيفتِه، أصبحتْ حاجتُها إلى العملِ أشد،
ليس فقط من أجلِ تحقيق ذاتِها وكيانِها كما كانت تقول دومًا، بل حتَّى تُعيلَ أسرتَها رَيْثما يتحسَّن وضعُ زوجِها، ويجد وظيفةً مناسبة. قريبتي تلك طيبةُ القلبِ، خفيفةُ الظِّلِّ، معطاءةٌ تحبُّ الخيرَ للجميع، ولا تتوانى عن تقديمِ المساعدة لأيِّ محتاج،
ولكنَّها مقصِّرةٌ في جنبِ الله كثيرًا، لا تواظِبُ على الصَّلاةِ، أحيانًا تمرُّ الشُّهور وعدد سجداتِها تُعدُّ على الأصابع،
أمَّا الأنكى من ذلك أنَّه إذا لُفِظت أمامَها عبارةُ الحجاب ثلاثَ مراتٍ أظنُّ قد يُغمى عليها، وللأسفِ لم تُجدِ محاولاتُ أبويها وأختِها
وحتَّى زوجها في إقناعِها بلبسه، فالعبارةُ التي كانت لا تغادرُ فمَها وتكرِّرُها في كلِّ مناسبةٍ: "لا تهدي من أحببتَ، إنَّ اللهَ يهدي من يشاء". ومرَّتِ الأيامُ وغرقتْ قريبتي في لجة الدُّنيا، وسلَّمت نفسَها لأمواجِ الفتنةِ تتقاذفها يمنةً ويسرة: اختلاط، سهرات خارج المنزل،
تعامل بالرِّبا، معاشرة صديقات سوء، فجأة شعرتْ بالاختناقِ من حياتِها هذه، أمعنت النَّظرَ في كلِّ ما هو حولها، فاكتشفتْ
أنَّها لم تمنحْها الشُّعورَ بالسعادة، كيف أنقذُ نفسي؟ كيف أصلُ بها إلى شاطئ الرِّضا والسَّكينة؟ أسئلةٌ بدأتْ بالإجابةِ عنها عمليًّا،
حاولتْ ما استطاعت المحافظةَ على الصَّلواتِ في أوقاتِها، وحينما قرَّر والداها الذهاب لأداءِ العمرةِ شعرتْ بالذَّنبِ لَمَّا تذكَّرتْ كلامَهما عن الحجاب، فقرَّرتْ مفاجأتهما بارتدائِه، كانت لحظات مؤثِّرة حينما رأَيا الحجابَ يكلِّل رأسَها، توقَّعتْ أن يسعدَ الجميعُ من أجلها،
ألم أقل لكم في بداياتِ حديثي عنها، إنَّها طيبةُ القلب؟! ما أن رآها مسؤول العملِ بالحجابِ حتَّى امتقع لونُه،
لم تتوقَّعْ أن يهنِّئَها قائلاً: "إمَّا العمل وإمَّا هذا الذي تضعينَهُ على رأسِك، سوف أُمهِلُكِ بعضَ الوقت لتفكِّري؛ لأنِّي لا أريدُ أن أراكِ وعائلتَك في الشَّارع"، فغرت فاها مدهوشة، تُرى لماذا لم يحمر وجهُه حين كان يُستهزأ بدينِ الله أمامَه؟! لِماذا لم يُمتقعْ لونُه
عندما كان البعضُ يجاهرُ بالفطر في رمضان؟! لماذا لم يغضبْ حينما كان يلحظُ العَلاقاتِ غيرَ الشرعيةِ بين بعض
الموظفين والموظفات ويغضُّ طرفَه عنها؟! كانت ردَّةُ فعلِها (ضحكة صفراء)؛ أليس شرُّ البليةِ ما يُضحك؟! أمَّا هو فبدأ بتنفيذِ وعيدِه، وظَّف فتاةً أخرى سافرة، لا تُقارَن بها خبرةً في مجالِ العمل، وأعطاها راتبًا يفوقُ مرتبَها بكثير، وأخذ يضيِّق عليها كثيرًا
ويُسمعُها عباراتٍ جارحة، فقرَّرتْ تقديمَ استقالتِها، رغم حاجتِها الماسَّة لهذه الوظيفة. آخرُ يومٍ لها أمضتْه في العملِ
، رمقها مسؤولُها بنظرةِ استخفافٍ، ثم قال لها: "ستعودين زحفًا إلى شركتي، وستتوسَّلين إليَّ، أتظنِّين أنَّ المؤسساتِ الأخرى
ستفتحُ لكِ أبوابَها وأنتِ بهذا المنظر؟ " لا تدري من أين واتتْها القوةُ فصرخت: "ومَن قال إنِّي سأعودُ إلى هذه المؤسسة،
اللهُ سيعوِّضُني خيرًا منها ومنك"! مرَّت شهورٌ وقريبتي تبحثُ عن عملٍ، ولكنَّ الأبوابَ كلَّها أُوصِدتْ في وجهِها، لم تيئس،
ظلَّتْ قويةً متماسكة بفضل اللهِ أولاً، ثم عائلتِها، حتَّى ظفرتْ بوظيفةٍ راتبُها أفضل، ودوامُها أقلُّ، ومديرها في العملِ يخافُ الله،
الأغربُ أنَّه حينما مرَّت الشركةُ التي كانت تعملُ بها سابقًا بأزمةٍ خانقة، سارع رئيسُ عملِها السَّابق بالاتصالِ بها عدةَ مراتٍ طالبًا
عودتَها للعمل بمرتَّبٍ ضخم، إلا أنَّها رفضت. قريبتي تلك ذاقتْ حلاوةَ الإيمان، فانطبق عليها
حديثُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّك لن تدعَ شيئًا اتِّقاءَ اللهِ إلا أعطاكَ اللهُ خيرًا منه))؛ رَواهُ النَّسائِيُّ.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن