بعد فض رابعة.. هل كفر الشباب بالحلول الثورية؟
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
9795 مشاهدة
كان الربيع العربي بوابة لعبور الآلاف من الشباب نحو الانخراط في المجال العام والاهتمام بالقضايا العامة، فبعد أن كان المجال العام مُهيمَنا عليه من قبل الدولة وموصَدا أمام أي شكل من أشكال التداول الشعبي، أتاح الربيع العربي فرصة إزاحة سلطة الدولة وهيمنتها على الشأن العام وفتحه أمام المشاركة والتداول العموميين.
بطبيعة الحال كانت فئة الشباب الفئة الأوفر حظا في المشاركة فيما يتعلق بالشأن العام، ولم تقتصر المشاركة عند حدود المجال السياسي وحسب، بل تجاوزته لتشمل كافة المجالات الاجتماعية الأخرى، فالعمل المدني بتنوعاته كان قد شهد ازدهارا لافتا في الحقبة التي تلت سقوط الأنظمة العربية السلطوية خاصة في مصر وتونس [1].
لكن الثورة المضادة جاءت لتحمل معها نقيض ما حملته ثورات الربيع العربي؛ فالأنظمة التي جاءت بها الثورة المضادة سعت لتقييد المحتوى المتداول داخل المجال العام تحسبا لقدرة هـذا الأخير على التأثير على المجال السياسي [2]، فعملت تحديدا على سدّ جميع المنافذ التي من شأنها أن توسع المشاركة في العمل السياسي والاجتماعي، وقطعت الطريق أمام أي احتمالية لعودة المطالب بالمشاركة في العمل العام سواء كان ذلك بالقوة والإكراه أو بالتخويف من احتمالية الفوضى.
تمثل بذلك حادثة فض اعتصام رابعة، كتجل لذروة توغل الثورة المضادة، حدثا مركزيا حول مستوى العنف الذي شنته السلطة المصرية تجاه المتظاهرين، ولتكسر معه سؤال إمكانية إسالة الدولة لدماء المصريين بكل وسائل العنف المتاحة، أيا كانت التبعات، وبذلك تحول سلوك الدولة العنيف فيما تلا ذلك، باعتبارها حوادث اعتيادية في إطار المألوف، لتشكل تلك الحادثة، ركيزة أساسية في سياق التحول الاجتماعي فيما بعد عنفوان الربيع العربي، أي من المشاركة السياسية الثورية، تجاه مساحات تشكل الفاعلية السياسية فيها خيارا غير مطروقا على المستوى الفعلي.
كان رهان الثورة المضادة إذا هو قدرتها على ضبط المجال العام وتحديد الفاعلين فيه وإقصاء من تراهم يمثلون خطرا وتهديدا على وجودها، ومن أجل هذا عملت على مصادرة المجال السياسي والحدث الثوري مستخدمة ذروة سياسات القمع والعنف لمعارضيها.
بعد عودة السياسات القمعية وتصدر الخيار الأمني في مواجهة آمال الشعوب العربية وطموحاتها تطرح أسئلة عدة، أبرزها: ماذا بقي من آمال لدى شباب الربيع العربي؟ وكيف كانت ردود أفعالهم حيال خيبة الأمل التي اعترتهم بعد فشل الوعود التي حملها الربيع العربي؟
ستختلف ردود أفعال الشباب حيال خيبة الأمل بحسب اختلاف مواقعهم الفكرية وخلفياتهم الأيديولوجية. وبصورة عامة يمكن رسم بعض المسارات التي سينتهي إليها الشباب العربي في حقبة ما بعد الثورات المضادة، حيث سيتم تشظّي الشباب إلى عدة نماذج [3]: النموذج الأول اتجه صوب الخلاص الفردي والنجاح الشخصي، بينما اتجه النموذج الثاني إلى النزوع نحو آفاق جمالية أدبية، والثالث فضّل الانسحاب إلى واجهة نقدية ثقافية متعالية، بينما سيختار النموذج الرابع الاستمرار في العمل النضالي والانخراط حتى النهاية في مواجهة السلطة، وأخيرا فهناك الذين اتجهوا نحو خيارات التطرف والعنف كنتيجة لخيبة الأمل من إمكانية التغيير السلمي.
النموذج الأول: الخلاص الفردي والنجاح الشخصي
تخلى قسم من الشباب عن كافة طموحاته التي ارتبطت بالعمل العام وتحقيق الخلاص المجتمعي، واتجه صوب الاعتناء بخلاصه الفردي ونجاحه الشخصي، وذلك من خلال الانخراط المكثف في منظومة الحياة اليومية واستهلاك طاقاته كاملة في البحث عن مشروعات شخصية، وتمجيد التجارة والاستثمار، والاستغراق في أدبيات الفكر الإداري الأمريكي كالتنمية البشرية وتحقيق الذات ومقولات الاستمتاع بالحياة [4].
لا يمكن قراءة هذا التحول من الانشغال بالشأن العام إلى هذه الصورة شديدة الذاتية إلا بصفته تعبيرا عن يأس وقنوط من إمكانية إحداث أي تغيير مجتمعي في ظل الأوضاع القائمة، بالتالي لا يتبقى للفاعل هنا سوى تحقيق خلاصه الفردي ونجاحه الذاتي.
النموذج الثاني: النزوع الجمالي هروبا من بؤس الواقع
كنتيجة للتردي الذي آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والسياسية في العالم العربي؛ اتجه قسم لا بأس به من الشباب نحو آفاق جمالية أدبية، حيث سينتشر داخل الأوساط الشبابية تداول الرواية الأدبية ذات المنزع التفكيكي، والتي يتلاشى فيها اليقين وتتخذ موقفا متشككا ومتوجسا تجاه الحياة [5].
من هذا المنطلق؛ ستزدهر أسماء الروائيين ميلان كونديرا وكافكا وإيميل سيوران وغيرهم ممن يمثلون هذا النمط في الرواية عند كثير من الشباب، وستكون هذه الاختيارات التفكيكية تعبيرا عن الحالة الشكوكية وفقدان اليقين الذي انتهى إليه الشباب بعد انهيار حلمهم المجهض، كما أنهم سيجدون في هذه الكتابات عزاء لحالهم الذي سيطر عليه اليأس وانعدام الأمل في مستقبل أفضل.
كما نجد عند بعض الشباب اتجاها نحو آفاق الشعر والقصيدة، وسيتم استعادة شعراء كالمصري أمل دنقل والعراقي مظفر النواب والسوري رياض الصالح الحسين؛ وكل هؤلاء يجمع بينهم تمردهم على الواقع ورفضهم الجذري له، مع يأسهم الذي يظهر في أكثر من نص من إمكانية التغيير، وهي حالة تشبه كثيرا حال الشباب الذين اختاروا اللجوء إليهم.
النموذج الثالث: الانسحاب نحو واجهة نقدية ثقافية متعالية
نتيجة لشعور الفاعل هنا أن المجال السياسي قد بات مُكلِّفا وخطرا على سلامته وأمنه الشخصي [6]، ومع ارتفاع كلفة الانخراط في أي عمل سياسي؛ اتجه قسم من الشباب نحو التعالي على الواقع واللجوء إلى واجهة ثقافية نقدية بحيث يحتفظ بمكانة في المجال العام، لكن دون تحمل تبعات المواجهة المباشرة مع السلطة القمعية.
لكن لا يجب في الوقت ذاته تعميم هذه النتيجة على كافة الذين اتجهوا نحو المواقع الفكرية النقدية، فقسم من هؤلاء الشباب اتجه للفكر وذلك لما رآه من ضرورة المعالجة الفكرية للقضايا السياسية والاجتماعية والتسلح بأدوات نقدية وفكرية في مواجهة الإشكاليات الواقعية الراهنة. وأيا كان الدافع في الاتجاه نحو المنزع الثقافي النقدي، فقد كان خيارا لفئة من الشباب العربي.
النموذج الرابع: الاستمرار في العمل النضالي
هذا القسم من الشباب لا يزال يحتفظ بمواقعه النضالية في مواجهة السلطة رغم انسداد الآفاق الممكنة. يرى هؤلاء أنه لابد من الاستمرار في العمل النضالي مهما كانت الإخفاقات والنجاحات، ومهما كانت الأثمان والتضحيات الضرورية للتخلص من الاستبداد [7].
ينحدر أغلب هؤلاء الذين اختاروا الاستمرار في العمل النضالي إلى أيديولوجيات ذات طابع نضالي، خاصة الإسلامية منها وبدرجة أقل اليسارية، حيث توفر هذه الأيديولوجيات قوة تعبوية تسمح وتضمن استمرارية العمل النضالي السياسي.
كما أن هناك عددا من الشباب غير المؤدلج -أي غير المنتمي لأيديولوجيات فكرية- لا يزال منخرطا في العمل النضالي سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهذه الحالات وإن كانت محدودة إلا أنها لا تزال قائمة وموجودة.
النموذج الخامس: الاتجاه نحو التطرف
هذا النموذج هو الأكثر درامية وعنفوانا، ويجسد النهاية المنطقية للاستحالة والحلم المجهض[8]، واليأس من أي إمكانية تغيير قائمة، كما يعطي مثالا للتمرد على السياسة وألاعيبها، يمثل هذا الشكل النموذج الخالص للعنفوان الثوري في تجليه الأكثر نقاء وطهورية وربما الأكثر استحالة وعدمية أيضا.
سيختار بعض الشباب الاتجاه نحو مواقف متطرفة عدمية والالتحاق بتيارات عنيفة لا باعتبار ذلك نتيجة لقناعات فكرية، بل باعتباره رد فعل نفسي على انسداد الآفاق أمامهم، والعنف المفرط الذي مارسته الدولة في مواجهتهم، هذا العنف يمكن النظر له بوصفه احتجاجا عدميا على انسداد الآفاق أمامهم.
كانت هذه هي المسارات الغالبة في معظم الحالات التي سلكها الشباب العربي في حقبة ما بعد الثورات المضادة، وهي في معظمها لم تكن اختيارات واعية ومدركة لذاتها، ولم تأتِ نتيجة لاجتهادات فاعلة وواعية بما هي مقبلة عليه؛ بقدر ما كانت ردود فعل عفوية يحكمها منطق الضرورة وطبيعة الأشياء، كما هو الحال دوما في منطق السياسة الذي يحمل هو نفسه طابع الإرغام والقسر.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة