إليه تهوي أفئدتنا
كتب بواسطة بقلم: المربي محمد عادل فارس
التاريخ:
فى : بوح الخاطر
3160 مشاهدة
ما تزال أفئدة المسلمين تهوي إلى البيت الحرام مذ رفع إبراهيم قواعد البيت وأَذَّنَ في الناس، فصاروا يأتون إليه رجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ يأتين من كلِّ فجٍّ عميق.
وتشعر القلوب بالجلال والجمال وهي تؤدي شعائر الحج، فمنهم مَن تكون ذروة انفعالاته وهو يطوف حول الكعبة المشَرَّفة ويملأ ناظريه بجلالها، ومنهم مَن تكون سبحاته في الوقوف بعرفة أو في السعي بين الصفا والمروة... ويشتركون جميعاً بالمشاعر الفياضة التي يحدِّثونك عنها ويجدون ألسنتهم تعجز عن التعبير عما يضطرم في القلوب.
عن مثل هذه المشاعر يعبِّر الشاعر محمود حسن إسماعيل:
ولمَّا نزلنا بأرض الهُدَى
وردَّ السلامَ حمامُ الحرمْ
وطُفنا مع الشوق حول السُّتور
ورُحنا بأرواحنا نستلمْ
دَعونا وماذا تقول الشفاهُ
إذا الروح غنَّت بسِحر النَغَمْ
* * *
هنا النور يُشرق في كلِّ عَينٍ
هنا العطر يسبِّحُ في الروضتينِ
هنا الروح في عَتَبات الضياء
وفوق الصفا وعلى المَروتينِ
صفاء يُعَطِّر كلَّ الدروب
وطُهرٌ يفيض على الجانبينِ
هنا مهبِط الوحي مَن سار فيه
سرى هائم الروح في جنَّتينِ
لقد وفَّى إبراهيم عهد ربِّه وبَنَى البيت، وسأل الله أن يجعل أفئدةً من الناس تهوي إلى هناك. وما برح المؤمنون إلى اليوم، وإلى قيام الساعة، يستروحون نسائم الإيمان، ويستلهمون أجمل الذكريات، ويتزوَّدون بالتقوى التي تعمر القلوب.
وإنَّ مما تستشعره القلوب في الرحلة المباركة أن هذا البيت قام _ أول ما قام _ على توحيد الله وتعظيمه؛ وإذ بوَّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً. وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود.
فهو مثابةٌ لعباد الله الطائفين المتقين، ولا ينبغي أن تكون للمشركين والطغاة والكائدين للإسلام سلطة عليه أو هيمنة، ولئن مرَّت مرحلة كان فيها لهؤلاء سلطة فإنَّ الله يبعث عليهم عباداً له يطهرونه من رجس أولئك.
ولأن البيت الحرام كذلك فإنَّ عباد الله يؤمُّونه ملبِّين مكبِّرين؛ ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. وهم يعظّمون حرمات الله؛ ومَن يعظّم حرمات الله فهو خير له عند ربّه؛ ذلك ومَن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
وبعكس ذلك فإنَّ مجرد إرادة الإلحاد فيه والمعصية يعرِّض صاحبَه للعقوبة؛ ومَن يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظلمٍ نُذقْه من عذاب أليم.
ومن مقتضى هذا التوحيد أنْ يُخْلِص المؤمنُ نيَّتَه في حجِّه وعمرته لله؛ وأتمّوا الحجّ والعمرة لله.
وحين تمتدُّ أيادي الشرك والفسق إلى تلك الرحاب الطاهرة فقد آذنت الأمور إلى الخراب، وعلى عباد الله أن يعيدوها إلى ما يرضي الله.
وإذا كانت العبادات كلَّها _ من صلاة وصيام وزكاة _ تحمل معاني وحدة الأمة المسلمة؛ فإنَّ الحج يزيد في ذلك؛ بأن يلتقي وفود المسلمين من شتّى بقاع الأرض _ بمختلف ألوانهم ولغاتهم _ ليؤدّوا مشاعر الحج معاً، وليُصَلُّوا حول الكعبة في صفوف مستديرة يوجِّهون وجوههم نحوها، ويوجِّهون قلوبهم إلى الله وحده، وتستشعر القلوب نعمة الله العظمى إذ هداها إلى هذا الدين؛ واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين. ولقد كانت البشرية كلها في ضلال قبل بعثة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وما تزال في ضلال كلما ابتعدت عن هديه. وحين تستشعر القلوب هذه النعمة تنظر بإشفاق إلى أولئك الضالين الذين يَلْهون بغرورهم، ويفخرون بتفاهاتهم، وهم في التيه والشرود، وإن الهدى قريب منهم لو كانوا يعقلون.
وحيثما سار الحاجُّ أو طاف أو سعى... تبرق أمامه بوارق الإيمان، وتفيض في قلبه فيوضات التوحيد، وتغمره سعادة لا يجد لها مثيلاً في غير هذه الرحاب.
وإنَّ المؤمن ليذكر تلك الحساسية العالية التي جعلت أصحاب النبي (ص) يتحرَّجون من الطواف بين الصفا والمروة، فقد كان في هذين الموضعين _ قبل أن يطهِّرهما الإسلام _ صنمان: "إساف" و"نائلة"، فكان المشركون يطوفون بينهما، وتحرَّج الصحابة: كيف نطوف بين موضعين كانا لصنمين، وقد طهَّر الله قلوبنا من لوثات الشرك؟ فجاءهم الجواب:
إنَّ هذين الصنمين كانا طارئين على هذا المكان، وإنَّ الصفا والمروة _ منذ عهد إبراهيم _ هما من شعائر الله، وقد زال الصنمان وعاد المكان إلى طهارته، فلا تتحرَّجوا من الطواف هناك؛ إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما.
وكذلك تحرَّج بعض الصحابة من التكسُّب بالتجارة في موسم الحج؛ مخافة أن يكون ذلك متعارضاً مع إخلاص العمل لله، فجاءت الآيات الكريمات تطمئنهم أن ذلك مباح لهم: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم.
ونقف وقفة وداع مع قوله تعالى: إن الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد. ومن يُرِد فيه بإلحادٍ بظلم نُذقْه من عذاب أليم. حيث إنه لم يذكر الخبر، لم يذكر ما جزاء هؤلاء الذين كفروا ويصدّون... وكأنَّ مجرد ذكر هؤلاء التعساء، في مقابلة ما ينبغي أن يكون عليه الأسوياء من تعظيم لهذا البيت، وتزوّد بالتقوى... يكفي للدلالة على سوء مصيرهم. أعاذنا الله من سوء المصير، ورزقنا زيادة الإيمان، ولذَّة اليقين، وجعلنا ممن يعظّمون شعائر الله.
حين تستشعر القلوب هذه النعمة تنظر بإشفاق إلى أولئك الضالين، وإن الهدى قريب منهم لو كانوا يعقلون
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة