باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
طرابلس الشام وعبد الحميد الثاني رحمه الله
كتب بواسطة أ. علي إبراهيم
التاريخ:
فى : المقالات العامة
5205 مشاهدة
يضم لبنان إرثًا ثقافيًا وأثريًا متنوعًا وهائلًا، وهو إرثٌ تاريخي وحضاري صمد على امتداد حقبٍ وعصور مختلفة، وعلى الرغم من هذا التنوع الكبير من آثار ومعالم المنتشر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، لا يجد الباحث في آثار لبنان والمناطق التاريخية فيه منطقة تعج بهذا الكم من المباني والصروح والمعالم التاريخيّة والأثريّة مثلما يجد في مدينة طرابلس، فمن يخطو خطواته الأولى في قلبها التاريخي يعرف طابع عمارتها الإسلامي، وما تزخر به من أبنية مملوكية رائعة الهندسة والتصميم، ويعود وجود هذا الكم الهائل من الآثار المملوكية إلى أن المدينة الحالية بناها المماليك بعيد تحرير طرابلس من الصليبيين في 4 ربيع الآخر 688 ه - 26 نيسان/أبريل 1289م.
ولم تنحصر أهمية طرابلس بالعصر المملوكي فقط، بل امتلكت طرابلس أهمية منذ عهد الفتوحات الإسلامية لبلاد الشام، حيث اتخذها سيدنا معاوية رضي الله عنه قاعدة لبناء الأسطول البحري الأول الذي شارك في معركة ذات الصواري والفتوحات التالية في البحر المتوسط، وشكلت محطة مهمة على الساحل الشامي وحاضرة أساسية، وقد أولى المماليك المدينة بعد تحريرها عناية خاصة، فكانت ولاية مهمة.
وفي عهد الدولة العثمانية تمتعت طرابلس الشام بمكانة مميزة، ففي مستهل الحكم العثماني لبلاد الشام شكلت طرابلس واحدةً من أهم المدن الشامية لديهم، فقد قسم العثمانيون بلاد الشام إلى ثلاث ولايات رئيسة، كانت طرابلس إحداها، إلى جانت ولايتي حلب ودمشق، وكان يتبع لها حماة وحمص وجبلة واللاذقية وغيرها. وكانت حدود ولاية طرابلس تمتد من مدينة جبلة شمالًا حتى جبال العاقورة وجبيل جنوبًا، وشكلت المدينة مركزًا ثابتًا وحيويًا لولاية مترامية الأطراف.
وعلى الرغم من تراجع مكانة طرابلس أمام تصاعد مكانة بيروت خلال القرنين التاسع عشر والثامن عشر، لكنها بقيت على أهميتها السابقة، وخلال عهد السلطان عبد الحميد الثاني رحمه خص المدينة بعددٍ من العطايا والهبات السلطانية، وفي هذا المقال نذكر بعضًا منها.
ففي عام 1308 ه/1889م، تم تجديد وتوسعة عمارة المسجد "الحميدي"، بهبة شخصية من السلطان عبد الحميد الثاني، حيث تم توسعة المسجد الواقع في محلة الزاهرية من جيب السلطان الخاص، وقد كان يعرف المسجد باسم "جامع التفاحي"، ومنذ ترميمه اقترن باسم السلطان عبد الحميد، وعُرف بالمسجد الحميديّ، ويتبع له اليوم أوقافٌ عديدة تحمل الاسم نفسه، تكمل مسيرة الإحسان والبرّ التي حتى يومنا هذا.
وعلى أثر ترميم المسجد الحميديّ في منطقة الزاهرية، وللولاء الكبير الذي أظهره سكان طرابلس الفيحاء للدولة العليّة العثمانية، أرسل السلطان عبد الحميد رحمه الله، شعرةً مباركة من لحية رسول الله e، هديةً لأهل المدينة، لكي توضع في المسجد الحميدي بعد انتهاء أعمال الترميم، وقد وصلت هدية السلطان إلى الميناء في عام 1309 ه/ 1890م، على متن فرقاطة عسكرية برفقة أحد الباشوات العثمانيين، وكانت الشعرة محفوظةً داخل أنبوبٍ زجاجيّ، معلقة ومثبتة بالشمع الأحمر المغلف بالعسل والعنبر، ومغلفةً بهلالٍ ذهبي، نزل الباشا العثماني حاملًا العلبة بوقار وجلال، وسط ابتهاج الأهالي الذين توافدوا للاحتفاء بهذه المناسبة المميزة، فتسلمها من الباشا مفتي المدينة آنذاك الشيخ حسين الجسر، ووضعها على رأسه وصولًا إلى الجامع الكبير، حيث اقترح علماء طرابلس حينها، أن توضع هذه الهدية في المسجد الكبير بدلًا عن المسجد الحميدي، لتوسط المسجد الكبير المدينة واتساع مساحته، فتمت الموافقة على ذلك، ومنذ ذلك التاريخ يتدفق أبناء المدينة والجوار في آخر يوم جمعة في شهر رمضان المبارك، لزيارة الأثر النبوي، في مشهدٍ مهيب، يعود الفضل فيه لمحب الرسول صلى الله علي وسلم السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله.
ومع إقرار عهد التنظيمات في نهاية القرن التاسع عشر، إبان عهد السلطان عبد الحميد الثاني، شهدت المدن اللبنانية عامةً تشيد العديد من الأبنية الحكومية العثمانية، حيث تم بناء عدد من السرايات الحكومية، التي تُعنى بالشؤون الإداريّة والتنظيميّة في المدن الكبرى، ففي عام 1882 تم بناء السراي الصغير في منطقة البرج في بيروت، وفي العام نفسه بُنيت سراي طرابلس وسط ساحة التلّ، وتم بناء سرايات أخرى في مدن صيدا وجبيل وصور وبعلبك، وقد أزيلت غالبية هذه الأبنية خلال الخمسينات والستينات، من دون أي أسباب وجيهة، ولم يبقَ منها حتى اليوم إلا سراي صور وبعلبك. وكان سراي طرابلس وغيره من سرايات لبنان مباني حكومية، لم تكن تحتوي على أماكن للإقامة، بنيت على الطراز الأوروبي الكلاسيكي.
ومع مرور ذكرى 25 عامًا على تولي السلطان عبد الحميد الثاني عرش الدولة العثمانية، أهدى مدينة طرابلس هدية جديدة، وهي برجٌ مميز الشكل، يحمل في أعلاه ساعة، بنيت في وسط منطقة "التل"، والساعة ضمن مجموعة من "أبراج الساعات" التي بُنيت في عددٍ من مدن الدولة العثمانية، وكانت ساعة طرابلس واحدةً منها.
بنيت الساعة في ساحة التل مقابل مبنى بلدية طرابلس، وعُرفت الساعة بالساعة الحميديّة أو ساعة التل، أو الساعة العثمانيّة في طرابلس، وتتكون من خمس طبقات، يعلوا بناءها 4 لوحات من جهاتها الأربع، تحمل اثنتان منهما طغراء - توقيع - السلطان عبد الحميد رحمه الله، وتحمل الاثنتان الأخيرتان شعار الدولة العليّة العثمانية، وتم الانتهاء من بنائها في عام 1901م. وفي عام 2017 تم وضع نموذج مصغر للساعة ضمن حديقة "تركيا المصغرة" minia turk في مدينة إسطنبول، بمسعى من عضو بلدية طرابلس د. خالد عمر تدمري.
وللمناسبة نفسها بُني في مدينة المينا، مسجد باسم السلطان عبد الحميد رحمه الله، شُيّد على أنقاض أول مدرسةٍ رسمية انشأها العثمانيون في "الأسكلة"، ويقع المسجد في أول السوق على يسار السائر إلى الجامع العالي الكبير، ويصعد إلى بيت الصلاة بالدرج، وصُنع محرابه الخشبي عام 1312 هـ
هذه بعض القبسات من علاقة السلطان عبد الحميد بمدينة طرابلس الشام، وفي الكلام عن حقبة السلطان عبد الحميد، يمكننا أن نتناول في مقالات قادمة، نواحي العمران والتطوير والمواصلات والتعليم وغيرها، التي جرت في مدينة طرابلس إبان حكم السلطان، على أن يكون هذا المقال نظرة عامة على مدينة أحبها السلطان، ومدينة أعطت السلطان الولاء والحب وما زالت حتى يومنا هذا.
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة