لوثة القرن.. تجديد أم تدمير للدين
كتب بواسطة د. وصفي عاشور أبو زيد
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1173 مشاهدة
لا توجد حضارة في التاريخ كما هي الحضارة الإسلامية من حيث رقيها وامتدادها الجغرافي والزماني الذي يتفوق على غيرها بفارق كبير ، وقد خضعت كما خضع غيرها من الحضارات لسنن الله في الارتقاء والأفول ، وبعد مضي أربعة عشر قرنا على وجود كيان سياسي يجمع الأمة ويعبر عنها من خلال تبنّيه لهويتها الثقافية ورؤيتها لعالمي الغيب والشهادة ورؤيتها للكون والإنسان ، فانه قد أصابها ما يصيب الحضارات من الانخفاض بعد الارتقاء والأفول بعد الشموخ لاسيما بعد زوال السياج السياسي الذي جسّد كيانها .
ورغم مرحلة الضعف التي مرّت بها ولا تزال الاّ أن الفوارق بينها وبين غيرها كثيرة وكبيرة ، فهي أمة التوحيد التي تهتدي بالقرآن دستورا وتقتدي بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم إماما وقائدا ومربيا وهاديا تحبه وتجله أكثر من آبائها وأبنائها ، ولعل هذين الركنين العظيمين وهما القرآن والسنة قد شكّلا العماد الحقيقي لوجود الأمة الاسلامية حتى اليوم رغم ما أصابها من أسباب تؤدي إلى مسخها وفنائها ، وليس هينا ما أصاب الأمة من مصائب – لعل أهمها وليس كلها – غياب الاطار السياسي الذي يطبق أحكام دينها ويحمي بيضتها بعد أن نجح الغرب بتدميره قبل قرن من الزمان ، وأضف لذلك بروز المفاهيم القومية ونشوء الدول الوطنية التي طرحت مفهوم الدولة الوطنية والقطرية بديلا عن حقيقة الأمة الاسلامية ، كما طرحت مفهوم الأخوة القومية بديلا عن مفهوم الأخوة الاسلامية ما نتج عنه حالة الاحتراب بين الأعراق التي تنتمي كلها الى نفس الأمة المسلمة ، وغيرها كثيرا من الآفات والمصائب التي لا تزال تتهاطل على رؤوس المسلمين من كل حدب وصوب .
فما الذي حمى الأمة الاسلامية وأبقاها حقيقة تشهد بها كل الوقائع التي نعيشها في عاصرنا رغم كل التحديات والثغرات ؟
بلا شك أن الفقه الإسلامي – الذي يعتمد في بنيانه على القرآن والسنة الصحيحة وفهم الصحابة رضوان الله عليهم وأصول الفقه – الذي انتشر عبر مذاهبه الأربع على وجه الخصوص يشكل الآلية الحقيقية التي جعلت الأمة بعربها وعجمها من طنجة حتى جاكرتا – على اختلاف ظروف القهر والاحتلال والاعتداء ومحاولات المسخ الثقافي التي عايشتها ولا تزال – تتشابه في أفهامهم و انتمائها وولائها وبرائها و عقائدها وعباداتها وممارساتها وعاداتها ومعاملاتها حيث لا يزال – رغم وجود كل أشكال النقص والخلل – الحرام حراما والحلال حلالا والمقدس مقدسا فيها والمدنس مدنسا فيها ، وقد تشكّل من هذه المادة الفقهية عماد الوحدة الثقافية للأمة. الموضوع :
كان ولا يزال وسيبقى الصراع قائما بين الحق والباطل ، فسنة الله في التدافع ماضية ولن تجد لها تبديلا ، وكما تعرضت دعوة الأنبياء للمواجهة والتشويه فإن تلك المواجهة قائمة مع كل دعوة وكل موروث للأنبياء والدين .
ولعل أبرز ما تتعرض له دعوات الأنبياء اليوم هو مشروع يهدف الى علمنة الدين ومسخه وتشويهه من خلال ضرب ثوابته وأصول فهمه وأصول استنباط أحكامه ، خلافا لما درج عليه علماء الأمة في تعاملهم وفقههم انطلاقا من النص الشرعي والواقع المتغير للوصول الى ما يحقق مقصد الدين ويجسّد معنى الخضوع له سبحانه .
ومما ينبغي الاشارة له في هذا السياق القديم الجديد والمتجدد أنه أخذ شكلا خطيرا ومتقدما في النفاذ للساحة الإسلامية عقلا وفهما وطرحا ، فقد عرف المستشرقون الغربيون في القرون التي خلت كروّاد لضرب ثوابت ومعاني ومفاهيم في الدين ، حيث ركّز كل منهم على معنى معيّن كمدخل لزعزعة الدين برمّته من خلال استهداف جزئيات محددة كالنص القرآني ودلالته وقيمة السنة وركنيّتها والنص القطعي وعالم الغيوب وقيمة اللغة العربية وآليات الاستنباط للأحكام الشرعية ومفهوم الأسرة وعالم المرأة … الخ
غير أن هذا القرن افتتح بنمط جديد يتنامى كل يوم في المشرق بعد المغرب ، إذ باتت هناك قيادات اسلامية ومفكرين ومنظرين ودعاة وأساتذة إسلاميين خرجوا من رحم الحركات والدعوات الاسلامية فصاروا هم بأنفسهم روّادا لتلك الدعوات والمنظرين لها اليوم.
ولا شك بأن هذه علامة فارقة في زمننا المعاصر اذ يعتبر هذا الدّور والتنظير خطر حقيقي ومتقدم باعتبار عنصرين أوّلهما هو الشخصيات الاعتبارية الاسلامية التي تطرح مثل تلك الطروحات ، وثانيهما هو المضامين الشرعية التي يحشدها ويقدّمها هؤلاء من خلال نفس المادة الاسلامية وعين التجارب الاسلامية بما يلبس الحق بالباطل في أعين وأذهان كثير من المسلمين وعلى وجه الخصوص العاملين في الحقل الإسلامي منهم .
إن إدراك هذا الخطر بحجمه الحقيقي هو الذي يجعل واجب الوقت اليوم هو التصدي لتلك الهجمة ومواجهة هذا المشروع وأدواته ، حيث المستهدف الحقيقي من تشويه الدين في عقول الأمة هو وحدة الأمة التي لا تزال قائمة وحقيقة موضوعية على الأرض رغم كل التجزيء السياسي الذي حلّ بها في القرن المنصرم الاّ أن لوثة القرن الحالي والتي ابتدأت مع بدايته تهدف الى إحداث التجزيء الفكري إضافة للتجزيء الطائفي الذي بدأ وتمدد .
وحتى لا يبقى الحديث عامّا لابدّ من الحديث عن ملامح المشروع الذي نعتبره خطرا حقيقيا يتهدد وحدة الأمة ودينها ، فما هي أهمّ تلك الملامح ؟
التقليل من قيمة القرآن في صياغة حياة الفرد والجماعة والأمة اليوم باعتباره مرتبط بزمان ومكان تاريخي وبالتالي فإن إعادة تفسيره اليوم من منطلقات أخرى تناسب زمانا ومكانا مختلفين بات معقولا وممكننا ، وهو ما يجعل الفهم والتفسير الإسلامي اليوم للقرآن من منطلق زماني ومكاني بمعزل عن تفاسير الصحابة و أفهامهم وما اشترطه علماء الأمة من شروط مبينة في علوم القرآن للتفسير النصوص .
التقليل من قيمة السنة النبوية وركنتها ، بل ان البعض ينادي بالاكتفاء بالقرآن وحده ووضع السنة جانبا ، كما يدعو البعض الآخر لإعادة النظر في السنة النبوية سواء أكانت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أو أقواله أو أفعاله وفرز ما هو تشريعي وما هو غير تشريعي لا يلزم المسلمين بشيء ، وقد انطلق أصحاب تلك الدعوة من أسس سليمة ولكنهم تعاملوا معها بشكل أعوج ، فالتفصيل بين تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالفتوى أو بالإمامة أو بالقضاء وغيرها ذكره الشاطبي رحمه الله لتفصيل وفهم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ أحكاما متعددة من حرام وحلال وواجب ومستحب ومكروه ومباح وغيرها ، فكانت جميعها شرع ودين ملتزم لنا بالاتباع والاجتناب نؤجر إن اتبعناه ونؤثم إن خالفناه بغض النظر عن مراتبه المختلفة ولكن جميعه دين ندين به ، أما دعوة هؤلاء فقد استهدفت تضييق مساحة الاقتداء بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وإحلال شيء آخر مكانه سواء أكان فلسفة ما أو هوى متبع أو ما يمليه الأقوياء في كل زمان أو ما يحقق مصالح خارج إطار الشريعة .
تقليص جانب الثابت في الدين وتوسيع وتعويم جانب المتطور ، رغم أن المسألة قديمة وقد تحدث فيها كثير من العلماء السابقين والمعاصرين وقد حدّدوا وقرّروا ما هو ثابت وما هو متطور من الدين ، غير ان هؤلاء الاسلاميين الجدد قد طرحوا منطلقات أخرى لتحديد ما هو ثابت وما هو متطور لا تنطلق من نصوص الشريعة ولا أفهام الصحابة ولا اجماع العلماء بل أتلفت عقولهم الفلسفات والتجارب الغربية حتى زلزلت فهمهم فبات التخلص من كل ثابت من الثوابت سببا لتحقيق النهضة في نظرهم القاصر .
التقليل من شأن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وجعل أفهامهم غير ملزمة واتباعهم غير ملزم ولا داعي للاقتداء بهم فهم رجال عصرهم ونحن رجال عصرنا أعلم بأمور ديننا ودنيانا ، وبالتالي فإن منطق الصحابة في النظر الى الأمور ومعالجتها منطق قديم لا يلزمنا بشيء وعلينا أن نطرح منطقا مغايرا بحسب المصالح التي نراها وفق منطق عصرنا الحالي ، وقد ساق كثير من هؤلاء أمثلة تبرز جوانب الخلاف بين الصحابة كما تبرز جوانب الاقتتال حتى جعلوها الأصل في النظر الى الصحابة والحديث عنهم وعن دورهم متغافلين عن جوانب العظمة في نفوس وعقول وذهنية صحابة رسول الله وما سطّروه من إنجازات عظيمة ، والأنكى من ذلك أن قسم من هؤلاء في الوقت الذي يحطّون فيه من قدر الصحابة ومنطقهم معتبرينهم من الماضي الزماني الذي لا ينبغي الانطلاق منه باعتباره ماض قد ولّى ، ولا الاقتداء به لما يعتريه من نقص فظيع في جوانب عدة أهمها خلوّهم من النظريات السياسية الناظمة للدول والجماعات – حسب زعمهم القاصر – فإنهم في نفس الوقت يعلون من شأن أصحاب الفلسفات السابقين من الملاحدة والمشركين وينقلون عنهم حقّا وباطلا ويعلون من شأنهم في طروحاتهم غير معتبرين لزمانهم الماضي ولا واقع حالهم.
التفسير الزمني الواسع من قبل هؤلاء لما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو عمل ، وبالتالي فان اجتهادات الصحابة على جلالة قدرهم جميعها تأتي في سياق الاجتهاد الزماني التاريخي وهذا يخالف زماننا اليوم بما يدعونا لقلب الصفحة التاريخية وعدم الالتزام ولا الاقتداء برؤاهم و أفهامهم ومنطقهم في النّظر وإنزال الأحكام ، بل ان بعضا منهم قد تجرأ لوصف عموم الأمة واتّباعها للصحابة ومن تبعهم من جهابذة العلماء بالعقم في هذا القرن حيث لا تزال الأمة مأزومة بالنّظر والتتبع لمنطق الصحابة ومن بعدهم من العلماء في قرون ولّت ومضت .
التركيز العميق على أن الاشكالية ليست في الأحكام القديمة التي نطق بها الصحابة رضوان الله عليهم ونقلها عنهم السلف من جهابذة العلماء حتى وصلت الى الخلف ، بل التركيز على رفض المنطلقات التي انطلق منها الصحابة رضوان الله عليهم وقعّدها من بعدهم العلماء وعلى رأسهم الشافعي رحمه الله عندما وضع قواعد أصول الدين لضبط فهمه واستخلاص أحكامه مع تغير الأحوال والزمان والمكان والأعراف لتجسيد هيمنة الشريعة في واقع الحياة مع اعتبار كل متغيراتها ، ولذلك فقد كثر الحديث اليوم بين الاسلاميين الجدد على ضرورة تجديد الأصول واستبدال الآليات بعيدا عن استقراء النصوص الشرعية القرآنية والحديثية ، وبنظرة سريعة لما طرحه الشافعي رحمه الله وما يطرحه هؤلاء فإنك ترى في طروحاتهم نضوبا عجيبا للمضامين الشرعية ونصوص الشريعة وكأن طروحاتهم لا تنطلق من الدين ولا ترتبط به بالقدر الذي يتم فيه إبراز فلسفة تحقق المصالح بعيدا عن ضوابطها .
التركيز على علم جليل جاء لخدمة فهم الأحكام الشرعية وموازناتها وهو علم مقاصد الشريعة ، ولكن التعامل معه تمّ بشكل أعوج كمنطلق للخروج من النص الشرعي بعلّة تحقيق المقاصد التي أبرز معانيها الشاطبي والطاهر بن عاشور رحمهما الله !!!
وكان الشاطبي رحمه الله عندما أسّس هذا العلم الجليل قصد منه تبيان عظمة الشريعة وأحكامها التي جاءت بما فيها من تحليل وتحريم لأجل تحقيق مقاصد تحفظ الدين والعقل والنفس والمال والعرض وذلك من خلال تحقيق الالتزام بالأحكام الشرعية ونصوصها وليس بتجاوزها والتنصل منها ، فالأصل أن الالتزام بالأحكام الشرعية والوقوف على نصوصها هو المسبّب الرئيسي لتحقيق المقاصد الدنيوية والأخروية ، والاّ فكيف يمكن أن نفسّر استجابة نبي الله ابراهيم لأمره سبحانه وتعالى بذبح ابنه إسماعيل والذي فداه الله بذبح عظيم ، وهل يمكن تفسير الأمر بتحقيق مقاصد سوى خضوع إبراهيم عليه السلام لأوامر الله ، والله قد أمرنا من قبل باتباع ملة إبراهيم عليه صلوات الله وسلامه.
تحريف مفهوم الحرية وجعلها قيمة كونية ، والغفلة عن أن الناموس الكوني جميعه يسير وفق قواعد يخضع لها اختيارا أو اجبارا ، والانطلاق في التنظير من مفهوم الحرية كقيمة عليا ، والانبهار بأشكال الحرية في الغرب ، مع ضمور مريع في الحديث عن مفهوم العبودية وعدم ابراز أننا أمة العبودية لله الواحد القهار ، فإن كانت الحرية مقصدا من مقاصد الدين فان مجمل أحكام الدين جاءت لتجسّد معنى العبودية لله الواحد القهار ، الأمر الذي يجعل معنى العبودية وليست الحرية هي الأساس .
ذكرت فيما سبق ثمانية ملامح ومنطلقات تميّز هذا الطرح الذي بات يطرحه الإسلاميون الجدد ويحدثون به خلخلة في العقل والوجدان الاسلامي من داخله بما يزلزل حالة الوحدة الفكرية عند المسلمين أفرادا وجماعات ، وتجدر الاشارة هنا الى أن زيادة خطورة هذا المشروع اليوم كونها تأتي في سياق زمني معاصر تعيشه الأمة بدون إطار سياسي ودولة تعبر عنها وتقيم أحكام دينها وتقوم على حفظه .
وقد تعمّدت في مقالي هذا ألاّ أشير الى أسماء بعينها ، فليس الهدف منه التشهير مطلقا ، بل الهدف هو دقّ ناقوس الخطر بما أن طرحا جديدا يحاول الغرب أن يتسلّل من خلاله الى أمتنا لهدم دينها وتفتيت وحدتها الفكرية ، وبلا شكّ أنه – باعتبار قوته وتغلغله في منطقتنا العربية والاسلامية اضافة الى سطوته الفكرية على كثير من النخب الفكرية – يستخدم أقلاما ومنابر ومواقعا ومنتديات في غاية الدهاء بغض النّظر عن المساهمين في هذا الأمر هل هم مطّلعون ومدركون لدورهم التدميري ، أم أنهم في غفلة من الأمر وقد اختلت الأمور أمامهم وضاع الهدى من بين أيديهم نتيجة اتباع لهوى ، أم هم ممّن طارت جنبات عقولهم انبهارا بجانب من جوانب تفوّق الغرب اليوم وعدم القدرة على فهم الأزمات الحقيقية الذاتية التي يعيشها الغرب فكرا وفلسفة وتجربة ،
أم هم ممّن ارتبطوا مباشرة بالمشروع الغربي وأدواته ومشروع ملالي إيران وأدواته بهدف الطعن المباشر في دعوة الأنبياء الصافية وشريعة السماء الحكيمة .
ولا يظننّ أحد أننا ندعو الى غلق باب الاجتهاد في الدين ، بل ان القرآن يدعونا دوما للنّظر والتفكر ، كما ان السنة النبوية تخبرنا بأن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد للأمة دينها – وليس من يخرج الأمة من أحكام دينها – وتاريخ علماء الأمة اللذين قعدوا قواعد وأصول وثوابت الدين مليء بالتجديد ، وما دلالة العلوم التي أبدعها علماء الأمة في مجال علوم القرآن والسنة والفقه والأصول والمقاصد والسياسة الشرعية الاّ دليل على ذلك .
غير أن الإسلاميين الجدد اللذين نقصدهم يقدّمون بمقدمات سليمة عنوانها إحياء المشروع الإسلامي وإنقاذ أمة الإسلام وهم يرمون الى فكّ الارتباط بين الأمة وموروثها في الفهم والأحكام ، بدل أن يكون الهدف تنقية التراث مما شابه من نقص وقصور وأخطاء والتجديد في المساحة التي تخدم الدين وتعلي من سلطان الشريعة وركنيها الأساسيين وهما القرآن والسنة المطهرة .
وقد اختلط الأمر على بعضهم – ممّن نحسن الظن بهم – حينما نظر الى واقع الأمة المتردي من الناحية السياسية والاقتصادية فأرجع السبب في ذلك لعقم في الطرح الإسلامي أصابه نتيجة تمسّكه بالتراث وبأحكام الدين وبالتجارب التاريخية للصحابة رضوان الله عليهم ولغيرهم من علماء الأمة ومجدديها .
غير أن الأمر أخطر من ذلك بكثير فهو يأتي لصالح تطويع فهم الدين وأحكامه لصالح مفاهيم الحضارة الغربية في جزئياتها التي تتناقض مع الدين وهي في جوهرها معركة حقيقية بين الحق والباطل وبين التوحيد وغيره من صنوف الشرك التي لا يكلّ ولا يملّ أصحابها ودعاتها من الكيد للدين وأتباعه وعلمائه الربانيين .
وممّا يشير الى أن هذا المشروع الذي يقوده الاسلاميون الجدد هو مشروع يشكل جزءا من المشروع الغربي الذي يريد أن ينتهي الى ازالة سلطان الشريعة من واقع الأمة بعد أن يمسخه في عقولها ووجدانها ولكن هذه المرّة بأقلام وأفواه وعقول اسلامية تحت ذرائع عدة منها تجديد الدين ، مواجهة التطرف ، انقاذ المشروع الاسلامي ، احداث التنمية في الأمة ، التعايش مع الآخر ، وأخيرا تحقيق مقاصد الدين ، وجميعها عناوين صحيحة ينبغي الحرص عليها والعمل لأجل تحقيقها لكن ليس بالشكل الأعوج الذي يبغونه عوجا من عند أنفسهم .
واذا ألقينا نظرة متفحصة في الطروحات التي يطرحها الاسلاميون الجدد في المشرق بعد المغرب فإننا نجد تركيزهم على ثلاثة محاور هي ( المحور السياسي – المحور الاقتصادي – المحور الأسري ) وجميعها مستهدفة في مقولات الغرب وتدخلاته المعلنة ، ولا يسع المقام هنا لتفنيدها وتفصيلها ، ولكن لا يخفى على أحد النماذج التي بات يطرحها الغرب على الجماعات الاسلامية قبل غيرها كنموذج مقبول للحكم – وتجربة الإخوان في مصر وموقف مرسي فرج الله أسره واضح في رفض ذلك الطرح – ، كما أن التدخلات في اقتصاد الدول الاسلامية من خلال الآليات الدولية كصندوق النقد الدولي ومحاولة إخضاع المنطقة ونظمها الاقتصادية من خلال حرب اقتصادية معلنة كالشمس لا يغطيه الغربال – وتجربة ماليزيا سابقا وتركيا حاليا تبرز هذا المعنى- ، وأخيرا وليس آخرا فإن حجم الضغوط الغربية المعلنة في مقولاته وخطواته لتدمير مفهوم الأسرة وأحكامها في ربوع الأمة بارز جدا – ولعلّ تونس النموذج الأبرز على اصرار الغرب على تعديل أحكام الأسرة وتقنينها بالشكل الذي ينقض عرى الدين وأحكامه – .
والمؤسف أن طروحات الاسلاميين الجدد لا تأتي انعكاسا لحاجة موضوعية في واقع الأمة ودينها ممّا يستدعي تجديدا في الدين كما حصل في تجارب الصحابة كأبي بكر وعمر الفاروق رضوان الله عليهم أو علماء الأمة ممن ساروا على نهجهم كالإمام أبي حنيفة والإمام مالك والشافعي وابن حنبل رحمهم الله أجمعين وأعلى قدرهم في عليين ، بل ان تفاعلات هؤلاء تأتي في سياق ما يريده الغرب وليس ما تشكو منه الأمة ، وخذ على ذلك مثالا قبل نصف قرن عندما خرجت الشعوب التركية الى الشوارع باكية وهي تكبر بالملايين حينما سمح رئيس الوزراء التركي السابق عدنان مندريس – رحمه الله – برفع الأذان باللغة العربية والصيغة التي نزل بها جبريل عليه السلام في تعبير جليّ عن ارادة الأمة في تجسيد الدين وأحكامه ، وبعد أكثر من نصف قرن خرجت الشعوب العربية تكبر في الشوارع والميادين العربية معلنة أصواتها لمن يرفع لواء الدين ويدعو لتطبيق أحكامه ، فهل خرج الشعب التونسي العظيم للميادين مطالبا بإزاحة الدين وتجديد احكامه المتعلقة بمفهوم الأسرة لتتبدّل أحكام الأسرة في الزواج والتبنّي والمواريث مؤيّدة من بعض الإسلاميين الجدد انطلاقا من تجديد الدين و التساوق مع الغرب فيما يريد ؟ كلاّ وحاشى بل خرج مطالبا بتطبيق الدين .
ونستطيع أن نفهم اليوم – وبعد الربيع العربي بالذات – لماذا لجأ الغرب لأدواته ومنابره وأشكال دعمه في المنطقة العربية على وجه الخصوص – فهي محبط وحي السماء – لقيادات ومفكرين إسلاميين دون غيرهم !!!
فقد فوجئ الغرب كما كل الدنيا أن الربيع العربي الذي أحدث زلزالا في المنطقة العربية وهزّ نظمها الحاكمة بشكل زلزل كل شيء فيها وهو ينبؤ عن خيار الأمة شيبها وشبابها رجالها ونسائها اللذين رفعوا راية الإسلام والقرآن والسنة ليصاب الغرب بحالة ذهول أفقدته وعيه ، فبعد قرنين من محاولات التدمير التي قادها الغرب منذ أن اقتحم نابليون أرض الكنانة الى اليوم ورغم كل ما مرّت بهم الأمة من فرض النهج القومي واليساري والرأسمالي الاّ أن الأمة تحيا من جديد برفع لواء الاسلام شعارا ومنهجا ، ولذلك فقد أسهم الغرب في معاقبة وكلائه في أنظمة الحكم بسبب فشلهم في اقتلاع الدين والمتدينين فساهم في اقصاء بعضهم كالرئيس المصري حسني مبارك والرئيس التونسي زين العابدين – وذلك من خلال أداته الفاعلة وهي الجيش والمخابرات – ، كما ساهم في قتل بعضهم الآخر بعد أن قدّم للثوّار ما يكفي من معلومات لوجستية لقتله كالرئيس الليبي معمّر القذافي ، وقام بتثبيت بعضهم الآخر بعد أن أثبت للغرب وحشيته في محاربة الدين وأهله واستعداده لمواجهة خيار الشعوب بالحرق والتسميم والنووي فجاءت مكافأة الرئيس الطائفي بشار الأسد لمزيد من أحداث التفتيت الطائفي للأمة ، ولعبت أدوات الغرب في تثبيت حكمه سواء من خلال ملالي ايران والحرس الثوري أو الكيان الصهيوني .
وقد أدرك الغرب أن جموع وجماعات الأمة وشبابها لا يستمعون ولا يتبعون الاّ من يحمل الاسلام شعارا ويدعو الى تجسيده في الأمة واقعا ، ومن هنا جاءت ضرورة صناعة وخلق مدرسة التجديد الإسلامي بالشكل الذي يطوع المقولات الاسلامية وخياراتها لصالح مفاهيم الحضارة الغربية ليسهل على الغرب تفتيت الأمة التي لم تتفتت رغم كل ما حصل فيها من تدمير ثقافي وتجزئ سياسي وافقار اقتصادي ممنهج منذ قرنين .
الخاتمة :
رغم قسوة الحقبة الحالية التي تعيشها الأمة الاسلامية ، ورغم شدة المعارك والمواجهات في كل اتجاه وعلى كل الصّعد ، ورغم غياب الاطار الجامع لشعوب الأمة الاسلامية الاّ أننا نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى ناصر دينه فهذا وعد الله الحق ، وقد مرّت على الأمة قبل ذلك سنوات عجاف ابّان الغزو المغولي والحملات الصليبية التي استهدفت مسح الأمة الاسلامية من خارطة الوجود ، الاّ أنها استيقظت بعد كبوتها وأخذت دورها في الركب الحضاري وقيادة أمم الأرض ، ولم يكن ذلك الاّ بفضل الله سبحانه ثم جهود العلماء الربانيين اللذين صدعوا بالحق وانحازوا للأمة ومصالحا وواجهوا التحديات الواقعة على الأمة والدين بعد أن وعوها وعيا عميقا .
واليوم فان ثلّة من العلماء المسلمين عربا وعجما يتصدرون لمواجهة تلك التحديات سواء منها الفكرية كما هو مشروع الغرب – علمنة الدين من خلال طروحات نخب اسلامية – ، أو مشروع الغرب في مسخ وتمزيق المنطقة وشعوبها من خلال أدواته الرئيسية في المنطقة كالمشروع الصهيوني ومشروع ملالي ايران الطائفي ، أو المشروع القومي وكذلك القطري الذي استنسخته بعض النخب العربية من الغرب لمزيد من اقتلاع عرى الدين وتمزيق واضعاف أهله .
وكما أن هذا المشروع – الذي يستهدف الدين وأحكامه كما يستهدف تفتيت الأمة – ينطلق من وعي وتدبير ودهاء كبيرين ، فان مواجهته والتصدّي له يجب أن تكون من خلال مشروع جماعي متكامل يتصدّره علماء ربانيون متعاونون فيما بينهم ويتميزون بوعي عميق للدين كما يتصفون بوعي للحضارة الغربية وفلسفاتها وتجاربها ويعون أزماتها الموضوعية والذاتية حتى تنقشع تلك الغمّة عن الأمة وتزول كما زالت سابقاتها والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
المصدر : البوصلة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن