العيش مع الأجداد الكرام
منذ طفولتي المبكّرة وعيتُ معنى العلاقة المسمّاة «حُسن الجوار»، وتلك العلاقة كنت أستريح لها كثيراً، إذ سادت بين الصغيرة وجدُّها لأبيها؛ فقد كنتُ أهابه كثيراً خاصة عندما أرى والدي وأعمامي وعماتي وذريّاتهم يقبّلون يده وكل منهم له هيبته الخاصّة، وإذا رأيته من بعيد ميّزته لطول قامته ولاتّزان خَطْوه، فإنْ جلس تحدّث بهدوء، وكان بيده عكازاً يهشّ بها على أحفاده في كثير من الأحيان. كنت أسعد أيّما سعادة إذا منحني أقل القليل من اهتماماته فابتسم لي وسألني: كيف حالك؟ أو حينما أراه يفتح حقيبة مخمليّة جميلة معلّقة فوق مجلسه ويبدأ تلاوة القرآن الكريم، ثم يتحسس رقبته ويُخرج شيئاً جميلاً فينظر إلى ساعته!!
فيعلن: «بقي للأخبار دقائق»، وهذا يعني بالنسبة لنا «منع تجوّل»، ثم تبدأ النشرة وأنا أرقب وجه جدّي المكفهرّ، وإذا ما استبدّ به الغضب أوسع المذياع ضرباً بالعصا.
ويقول بعصبية: هذا كذب كذب..
فأفهم أنا أن جزاء الكذب هو الضرب الموجع.. ويُقبل أهل الدار لتهدئته وتُقبل والدتي بابتسامتها وهي تحمل له فنجاناً من الشاي بينما كنت أسمع حواراتٍ ساخنةً وأصواتاً مرتفعةً ورثاءً مبهماً لأيام العثمانيين أو أيام العسكريّة؛ فعلمت فيما بعد أن جدي رحمه الله كان جندياً في الجيش العثماني في مطلع القرن الماضي ولديه انتماء عظيم لدولة الخلافة الإسلامية، ومن خلال مذياعه الأثير كان يحلم بالعودة إلى فلسطين ويتمنى لو يحمل له المذياع قبساً من أمل، لكنه كان يردِّد بأسى بالغ: «فلسطين أندلس جديدة» فتردّ عليه جدّتي ببراءة الأطفال: سترجع لنا فلسطين والأندلس وسوف نعود. وسأعود من عمان إلى يافا مشياً على الأقدام - كما نذرت - فيهزّ رأسه ويقول: «إنت بتحلمي يا ست. اعلمي أنك، بل أننا جميعاً، نعيش كذبة كبرى... وينظر إلى والدي ويقول: العثمانيون حافظوا على فلسطين قروناً والعرب أضاعوها بعد ثلاثين عاماً من إدارتها! ثم ينظر إلى أحفاده الصغار ويقول: كان الله في عَوْنكم على قابل أيامكم!». أذكر تلك الموائد الساخنة من الحديث، وكان ذلك في أواسط الستينيات من القرن الماضي، ثم ينظر إليّ جدي ويقول: «خولة... ضعي إبريق الوضوء تحت معرش العنب».
فأطير منتشية بهذا التكليف، وأجدها فرصة لتأمل معرش العنب الكبير الممتد، فأرى قطوف العنب الشهيّ تلمع تحت أشعة الشمس وأوراق العنب تحيط بالعناقيد وكأنها معاصم من مرايا، وكلما انتهى جدي من وضوئه أُحسّ به إنساناً رقيقاً كريماً، ويبدأ بانتقاء أطايب الثّمر ويطلب من الصغار توزيعه على المعارف! كانت بعض العناقيد لا تحملها ذراعاي الضعيفتان فأختار توزيع ورق العنب، وكان جدّي يردِّد: هذا عطاء الكريم.
ذهب جدّي وذهب عنبه الأثير وبقيت عرائش العنب مستلقية في أعماقي ترشد خطوي لكيفية إدارة الموارد؛ فما زلت أحتفظ بماء الوضوء فأروي به عطش الأيّام... وغادر جدّي دنيانا - عليه سحائب الرحمة - ولمّا يتحقق له بصيص أمل، بل لقد سمعت كبار العائلة يحمدون الله أنه ودّع الدنيا قبل سقوط المسجد الأقصى بأيام قلائل..
(يتبع)
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن