كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية
ماذا لو أن زعيما عربيا وقف وسط ركام بيروت يواسيها؟
كتب بواسطة مثنى عبد الله
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
305 مشاهدة
لماذا نزل ماكرون في وسط بيروت مواسيا اللبنانيين، بعد ساعات قليلة من الكارثة، ولا نجدك بيننا يا جلالة الملك، ويا سمو الأمير ويا فخامة الرئيس؟ أين جلالتك سيدي الملك العربي؟ أين سموك؟ وأين فخامتك أنت أيها الرئيس العربي؟ نحن شعبكم، ونتذكر أنكم رصصتم الصفوف، وشبكتم الأذرع، ومسكتم الأيادي مع قادة العالم الآخرين، في مسيرة التضامن مع صحيفة «تشارلي أبدو» الفرنسية، في حادثة الاعتداء الآثم على كادرها قبل بضع سنين؟
لكن هذه بيروت سيدي! ألم تسِل دماء في بيروت أيضا، ويُحرق نصفها وليس بناية واحدة، كما في «تشارلي أبدو»؟ هل دماء غيرنا دماء ودماؤنا ماء؟ وهل مدنهم معالم وحواضر ومدننا سراب؟ لماذا سمعنا أصوات غالبية قادة العالم في كارثة مدينتنا العربية، ولا نسمع أصواتكم إلا همسا ومن وراء حجاب؟ ما الانتماء يا ولاة أمورنا؟ ما معناه في قاموسكم؟ هل الانتماء فقط بالدم والتاريخ والجغرافيا، وكلمة في بطاقة الأحوال المدنية، تشير إلى أننا عرب وحسب؟ أم أن الانتماء شعور قبل هذا وذاك؟ كيف يتجسّد شعور الانتماء إلى الأمة ويترسّخ في الضمائر والعقول، إن لم نجد الزعيم العربي بيننا في الأوقات العصيبة، فينعكس ذلك علينا ويعطينا شعورا بأننا جزء من الأمة، فيمنحنا القوة والثقة بأن الظروف مهما قست علينا لن تطحننا، وعندها تصبح الحياة ممكنة حتى للذين تعبوا من انتظار الفجر والأمل، في فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا وكل أقطار الوطن؟
لقد أصبحت وأمست الملايين من شعبنا في هذه الجغرافيا العربية، وهم يعرفون أن النهايات القاتمة في انتظارهم، مرة تأتيهم من أعدائهم، ومرة تأتيهم بسبب حكامهم، وكلها تربض على حواسهم، إلى الحد الذي بات اليأس يسيطر على حركتهم فيشلها، فكان أن مات الزمن في عيونهم ولم يعودوا يرونه كي يقولوا إن هناك أملا في غد آخر ينتظرهم. لذلك ذوت تفاصيل الحياة، وتراجعت الأمنيات وغابت الأحلام، ولم يعد في الذاكرة غير محاولات حثيثة لاستعادة صور الماضي، ومقارنتها بصور الحاضر، المليئة بملامح الأسى والصراخ والاستغاثات، التي باتت مادة دسمة للقنوات الفضائية.
آلاف الصور والمشاهد التي تنقل واقع الحياة اليومي للمواطن العربي، كلها تشترك في نداء واحد وأخير، عنوانه التوسل والتضرع والتضور من الجوع، في بلاد يفترض أن لا أحد فيها يجوع، حتى بات الرحيل عن هذه البلاد هو الأمنية الأولى والأخيرة لملايين الشباب والكهول والنساء، وأن الاستعداد لهذه الخسارة أصبحت ممكنة، وأن التكيّف مع الفراق الذي يشبه الموت خارج هذه الخريطة ممكن، بعد ما بات التكيف مع ما هم عليه في هذه البلاد مستحيلا. فأي ظلم هذا الذي يجعل الانسان مستعدا للرحيل إلى خرائط أخرى مجهولة، يعلم أنه سيفقد فيها جزءا من ذاته وتاريخه وجذوره، ولا يبالي؟ وأي مصير هذا الذي يحث الإنسان على أن يغامر، علّه يجد نفسه في أماكن بعيدة لم تخطر على باله يوما؟ وأي مرارة تلك التي تجعلك تهجر الديار والصحاب ورائحة الطفولة والصبا والشباب؟
كثيرون أولئك الذين صُعقوا من أصوات خرجت من لبنان تدعو المستعمر للعودة. وكثيرون شعروا بالمرارة والغيرة على الوطن، من أصوات تتوسل بماكرون فتح تأشيرات الدخول إلى فرنسا، لكن البعض ينسى بأن التوسل والاستنجاد والتلوّع وبكاء العيون والقلوب، وطلب مد يد العون الممتد على طول وعرض الخريطة العربية، يجعل العذاب يتكثّف، فيصبح بمرور الأيام والشهور والسنين، ذا وقع ثقيل فتعصر الناس عصرا إلى حد الاختناق، ويصل الألم إلى درجة الحرقة، فيمسي الإنسان هشا، وقابلا للتشظي، ومسلوب الإرادة، عندها يتخذ أصعب القرارات في حالة ضعف، ويقسو حتى على نفسه، لأنه فقط يريد أن يطغى صوته على جميع الأصوات. يريد أن يصرخ بأعلى صوت، ويقول أشياء ويفعل أشياء ما كان هو نفسه يتصور أنه سيفعلها، لأن الحياة على هذه الأرض قست عليه، ولم تجعل له خيارا آخر، بل إنه أكتشف أن كل جهده وصبره قد ذهبا عبثا من دون جدوى، وأصبحت ذاكرته سجنا كبيرا يسجل على جدرانه معاناته اليومية، ومعاناة الذين حوله. فبات يؤثر الرحيل علّهُ يجد نفسه في مدى آخر يعطيه فرصة الحياة والشعور بالإنسانية والكرامة، على الرغم من أنه يعرف أن ما هو مُقبل عليه ليس سهلا، وأن عملية تشكل على نحو جديد صعبة وقاسية تنتظره في عالمه الجديد.
يقول نزار قباني «يا بيروت من باع أساورك المشغولة بالياقوت». كما تصف الشاعرة اللبنانية نادية تويني نفسها بالقول «أنا أنتمي إلى بلد ينتحر كل يوم، بينما يتم اغتياله». وينطبق هذا القول على كل العواصم والمدن العربية، في حين يقف الحاكم العربي متفرجا على كل هذه الانكسارات، وكأنه في عالم آخر ليست له به صلة، ولا حتى صلة الإنسانية، فقد هبط الظلام على فلسطين والعراق وسوريا وصنعاء وليبيا، واقتحمت معه الأحزان مئات المدن والبلدات وملايين البيوت والقلوب في كل قُطر من هذه الأقطار، وإذا كانت مهمة الرجال هي خلق الأماكن والتسابق لوضع بصماتهم عليها، كشرف يسجل اليهم، فإن الحاكم العربي سجّل له التاريخ أن في عصره اندثرت حواضر، وانطفأت منارات حضارية وثقافية، كان الغرب منبهرا بها يوما ما.
لقد كانت بيروت في عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات ساحة صراع بين أقطاب النظام الرسمي العربي، كل يفجّر مصالح الطرف الآخر فيها. وكل يدعم فيها طرف ضد آخر، وكل يصنع موالاة له ومناصرين وأحزابا وسفارات وقنصليات، عملها فقط ترتيب عمليات تفجير لمصالح العربي الآخر، ثم تطور الأمر وفُتحت ساحات أخرى لم تعد بيروت وحدها هي ساحة حرب للنظام الرسمي العربي، ما فتح شهية الآخرين كي يمارسوا اللعبة نفسها، من ممثل الولي الفقيه، الذي بات يتباهى علنا بأنه يحتل عواصم عربية، إلى ماكرون المأزوم في بلده، والواقف منتشيا بالجموع التي أحاطت به وهتفت له، وشكت له رثاثة الحال. إنه مسرحه اليوم، بعد أن شغر المسرح من أهله وانزوى الزعماء بعد أن تقيأت بيروت فسادهم وسرقاتهم وعهرهم السياسي، فأنصت إلى شكوى الناس الذين أصابهم الهلع من هول وقع الكارثة، وكأي سياسي يبحث عن استثمار شاركهم حزنهم، وحشّد العالم كي يهب لمساعدتهم. وقالها بصوت عال، من دون خجل وبلا دبلوماسية، إن ما سيجمعه من مال لن يذهب إلى جيوب زعماء لبنان، ثم جلس أمامهم كمعلم فظ يملي عليهم ما يجب أن يفعلوا، محذرا من أن حسابهم سيكون في بداية الشهر المقبل، عندما يعود إليهم لفحص تنفيذ توجيهاته، وأن عليهم إيجاد مبادرة سياسية تُعيد للبنان صحته ودوره. وبصراحة تامة أيضا قال لهم إذا لم تلعب فرنسا الدور فقد تتدخل قوى أخرى، وكأنه يقول لكل زعيم عربي إنكم خارج كل الحسابات والتأثير في بلدان لا تستحقون الزعامة عليها.
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة