جنى
التاريخ:
427 مشاهدة
عادت من محاكمتها مهيضة الجناح، كسيفة البال، منتفخة الأوداج، بعد تجرعها لمرارة يوم علقميِّ المذاق، متلاحق الأحداث والمواقف، ربما ظن الناظر إليها أنها ستقع أرضًا بعد لحظات من شدة إعيائها، لأجل ذلك سارعت زميلتها لمساعدتها فأجلستها على أقرب أريكة، وقدَّمت لها شرابًا منعشًا، ثم جلست قبالتها محاولةً تخفيف وطء قرار المحكمة عليها، لكن (ليال) ابتدرتها قائلةً: "كم هو مخادع، كذَّاب، منافق، لقد غشَّني ذاك الوغد القميء (سيف)، كان طيلة فترة الخطوبة يفرش أُفقي بأجمل الورود، ويقدمها لي محفوفةً بألطف العبارات، إن خسارتي لو وُزِّعت على أهل الأرض لآلمتهم، كنت واهمةً مخدوعةً".
اقتربت (وفاء) من زميلتها (ليال)، وربتت على كتفها قائلةً: "حاولي نسيان الماضي".
زفرت (ليال) زفرةً عميقةً، وقالت: كيف؟ كيف؟ كيف أنسى خسارتي لأهلي ولمجتمعي؟! لقد أعطيته الكثير، ضحيت من أجله، وقفت بخندقه، فقاتلت ببسالة كل أحبَّائي في الخندق الآخر، يا له من ممثل بارع! استطاع أن يخدع المقرَّبين والأبعدين".
أحسَّت (وفاء) أن كل ذرة من شلالات دموع (ليال) تشهدها على الأيام المنصرمة، وأن كل زفرة من أعاصير آهاتها تسمعها حديثًا أرشد به غير واحد (ليال)، التي كانت توصف بالعنيدة، بل إن صورة (ليال) الآن تشبه صورتها قبل سنوات يوم أن صدر بحقِّها قرارٌ تأديبيٌّ؛ لأنها ضُبطت في عملية غش مرسومة بدقة، وتذكر (وفاء) أن أستاذ مادة اللغة العربية خاطب (ليال) يومها قائلاً: "لا تخدعي أحدًا يا ابنتي؛ خشية أن تُعاقبي بالخديعة".
لم أدرك يومها ماذا كان يقصد أستاذنا الكبير بذلك، لكني ربما فهمت اليوم طرفًا مما أشار إليه.
فالحقيقة التي أعرفها عن (ليال) منذ أمد أنها كانت تحصد أعلى الدرجات في الغش والخداع، وكم زينت لنا أساليب ذكيَّةً - على حد تعبيرها - للحصول على أعلى الدرجات المدرسيَّة فالجامعيَّة، وكانت ردود أفعالنا متباينةً، إلا أن معظمنا حاول أن يسدي لها النصائح، لكنها كانت ترفض لغة الجبناء والدراويش - على حد تعبيرها أيضًا - إذ كانت تخرج من كل امتحان رافعة الرأس، عالية الجبين، زاهية الطلعة، واثقة الخطو، وكان يزداد رصيدها من الغرور كلما حصلت على نتائج باهرة.
ربما كنت أتساءل أنا وزميلاتي عن سرِّ ذلك التفوق، ونكاد نجمع على صحة مقولة أستاذنا فيما كان يتمثل به:
(إن الله ليمهل للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته).
(إن الله ليمهل للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته).
واستطردت (وفاء) متأملةً: "لو جمعنا كل مواقف الخديعة والغش والكذب طيلة حياة (ليال)، ترى هل تساوي امتحان عقد زواج قائم على الخديعة والكذب، وانتهى بالمخالعة التي اقتلعت حقوق (ليال) اقتلاعًا؟!".
ليال كذبت على أبيها، فظهرت بثوب الناسك المتطهر، فكذب عليها خطيبها، فظهر بثوب القديسين الأبرار في نهاره، بينما هو في ليله يعاقر الخمر ويجالس النساء، مسكينة ليال؛ لم تتعرف عيناها على شعاع صدق خارج من القلب، منطلق بخط مستقيم، ومرشد إلى صراط مستقيم، فطُعنت بسهم قاتل منطلق من قلب منافق؛ ليستقر في قلب مريض.
لحظتها نظرت ليال نظرةً طويلةً إلى وفاء، ثم تمالكت نفسها فوقفت وقالت بصوت عال: "كانوا يقولون: من نمَّ لك نمَّ عليك، وأنا أضيف: من كذب لأجلك، كذب عليك، ومن خدع غيرك أمس، سيخدعك غدًا، وقديمًا قالوا: لن تجني من الشوك العنب، هكذا تعلَّمت من تجربتي الأليمة، والشقي من لم يتعظ بغيره!".
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن