*** بداية النهاية ***
كل من كانت لديه أدنى درجة من الفراسة يعرف أنها ساهمة، أنها تعاني صراعاً داخلياً.
ولكن قلة من الناس من يعرف ما الذي يدور بذهنها المتعب. وهي جالسة في ذاك الكرسي المتهرئ الذي يهتز مصدراً صوتاً أشبه بصوت الباب الصدئ؛ كلّما تحرَك "الباص" المسرع المليء بالعازفات والراقصات؛ يميناً أو شمالاً.
كانت تنظر إلى زميلاتها المندمجات مع الأغاني الراقصة، وتتمنى لو تشاركهن مرحهن ولهوهن، لكن ما العمل وهذا السائق ومساعده الخبيثان اللذان ينظران إلى الفتيات بنظرات لم يستطع أي ذئب إرسال مثلها في الجودة؟
أسئلة كثيرة طرحتها نفسها الأمّارة بالسوء:
لم نحن "المتديِنات" محرومات من هذا الفرح دوماً؟ يا ليتني لم أفكِر بالالتزام يوماً. آه ما أشقاني وأنا أنظر إليهن يلعبن ويمرحن وأنا وحدي كالمنبوذة، وما الذي سيحدث لو نزعت حجابي قليلاً؟
فتجيب النفس اللَوامة:
لا يا (سناء) العالية الغالية، كيف تسمحين لنفسك بالتفكير على هذا النحو؟ الم تتوقعي هذا كله عند إعلان الرحلة؟ فلم قبلت بها إذن؟ تحمَلي نتيجة أفعالك، أين الصبر على المعصية؟
لكن صورة الراقصات اللعوبات اللواتي يملأن الباص ملأت عقلها من جديد. فأرسلت تنهيدة عميقة، انتبهت لحرارتها بعض الزميلات فانبرت تقول:
*ما بك يا سناء؟ لم هذا الحزن والجمود ونحن في قمة المرح والسعادة؟ ثم ما لي أرى حجابك إلى الآن يخنق أنفاسك؟ لمَ لم تنزعيه من فوق شعرك الجميل بعد؟
وانتبهت طالبة أخرى فشاركت في الحديث بقولها:
*انظري إلى فلانة وفلانة، وهنّ أكثر منك حرصاً والتزاماً بالدين. لم يحرمن أنفسهنّ اليوم وشاركننا المرح واللهو، وهل سيدخلك نزع حجابك يوماً واحداً... النار؟
*ولكن.. فقاطعتها إحداهنّ وقد أفرحها تردُدها:
*ولكن ماذا يا سناء؟ إلى متى تظلِين هكذا صامتة شاردة كـنك في عزاء؟ إنها رحلة يا أختاه، والرحلة مرفوع عنها القلم. وإن سجِل شيء في صحيفة سيئاتك فألقي به إليّ أتحمَله عنك راضية سعيدة!!
وعلت قهقهات الفتيات الساخرة من حولها، مما دفع سناء لأن تهتف بهنّ:
*اتركنني أفكِر قليلاً، وأوافيكنّ بالجواب.
تذكَرت حينئذﹴ حوارها مع زميلتها هداية. التي كانت سبباً في هدايتها (سناء) إلى الطريق القويم. رفضت هداية رفضاً قاطعاً الخروج معها في هذه الرحلة، كانت حجَتها أنّ الرحلة لا تكسب إلاّ ذنوباً في ذنوب، وأن بها من المغريات والفتن ما الله به عليم. وتذكَرت نفسها وهي تستنكر على هداية تخوُفها من وقع هذه الرحلة على نفسها، خوفها من الفتنة وهي جديدة عهد بالهداية. تذكَرت كيف هتفت حينها: ماذا يا هداية؟ وهل تريديني أن أحرم نفسي بعضاً من الراحة والمتعة؟ وهل تظنِيني صغيرة لكي تعلِميني ما يجب أن أفعله وما لا يجب؟ أنا حرّة.. حرّة.. وعلا صوتها وهي تهتف: أنا حرة وبحركة خاطفة نزعت الحجاب وتركت شعرها الفحمي ينسدل على ظهرها، ثم وقفت للرقص فأفسحت الفتيات لها، بينما لمعت نظرات أخرى في عيني السائق الخبيثتين وتبادل هو وزميله بعض الهمسات البذيئة..
مضت الرحلة على خير ما رسم لها، وبهرت سناء أثناءها الجميع بجمالها ورشاقتها..
في نهاية الرحلة، وقفت المعلِمة النصرانية لتعلن اسم الفائزة بلقب "الطالبة المثالية" في الرحلة وكانت المفاجأة: سناء.. هي الطالبة المثالية.
تقدَمت سناء، وبيد مرتجفة أقبلت لتستلم جائزتها، نظرت في عيني المعلِمة الماكرة، قرأت فيهما الانتصار، الاحتقار والازدراء..
نظرت إلى الفتيات من حولها فخيِل إليها أنّ نظراتهنّ كلَهنّ كنظرات المعلِمة، أحسَت بنفسها تصغر وتصغر، وبالمقابل صورة هداية تكبر وتكبر، حتى بدت كالدودة الحقيرة بجانب الطود الشامخ.
تركت جائزتها تسقط أرضاً... ركضت وركضت، إلى أن تعثَرت لشدَة سرعتها، فانكفأت على وجهها، وانخرطت في البكاء.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن