لماذا لا ننفق في سبيل الله؟
الذين لا ينفقون أموالهم في سبيل الله إنما يفعلون ذلك لضعف ثقتهم بوعد الله ومثوبته، أو لإطاعتهم وسوسة الشيطان الذي يخوّفهم من الفقر إذا أنفقوا، والعسر إذا بذلوا، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى:﴿الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرةً منه وفضلاً والله واسعٌ عليم﴾[البقرة:268]، إنهم لا ينفقون بسبب موت الشعور الاجتماعي في نفوسهم واستيلاء الأنانية القاتلة على طباعهم. فهم يظنون أنهم خلقوا ليعيشوا وحدهم وأنهم جمعوا المال بجهدهم وحدهم وأنهم لا يطالبون إلا بأنفسهم وذويهم. وفي ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام:
"ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم" رواه البزّار والطبراني.
إن من علامات الخير في الأمم أن ترى أبناءها في حياتهم الشخصية والعائلية لا ينفقون إلاّ بقدر معتدل ولا يبذلون إلاّ ما هو في حدود الكفاية، ولكنهم في حياتهم الاجتماعية أسخياء وكرماء لا يعرفون للكرم حدوداً. والإسلام يأمرنا في حياتنا الخاصة بالاعتدال دون إسراف ولا تقتير فيقول الله تعالى:﴿ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً﴾[الإسراء:29] ويقول:﴿الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما﴾[الفرقان:67] ويقول:﴿وكلوا واشربوا ولا تسرفوا﴾[الأعراف31].
أما في حياتنا الاجتماعية وصلتنا بالناس فليس في الجود فيها إسراف ولا تبذير. إنه الميدان الذي تزداد مكانتنا فيه عند الله كما في قوله تعالى:﴿الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون﴾[البقرة:274]. وتعود فائدة الإنفاق إلى نفس كل واحد منا قبل غيره:﴿وما تنفقوا من خير فلأنفسكم﴾[البقرة:272].
والإنفاق يدلّ على عمق جذور الخير في النفس:﴿مثّل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابلٌ فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابلٌ فطلّ﴾[البقرة:265]، وإنه دليلٌ على عظيم الثقة بالله والرغبة في ثوابه ورضاه:﴿وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله﴾[البقرة:272].
وأما البخل واكتناز الأموال وحبسها عن سبل الخير فهو شرٌ على البخيل ذاته:﴿ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم﴾[آل عمران:180] وهو عذابٌ أليم ينتظرهم عند الله.
بهذه الأخلاق ربّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته، وربّى صحابته الناس فكان من آثار برّهم وسخائهم مما لا ينقضي منه عجب التاريخ.
وهذه بعض النماذج: لقد كان أبو بكر رضي الله عنه في حياته الخاصة من أبسط الناس معيشةً ومأكلاً وملبساً، حتى إذا احتاج المسلمون إلى المال للإنفاق في غزوة تبوك، وحثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على تجهيز الجيش جاء أبو بكر بكلّ ماله، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء عثمان بمال كثير ورواحل وجهّز كثيرين من الصحابة على حسابه. وفي عهد الفاروق عمر أصاب الناس قحطٌ وشدّة وكان لسيدنا عثمان قافلة آتية من الشام فيها ألف جمل وعليها أصناف من الطعام واللباس مما لا يقدر في تلك المحنة بثمن فيجيئه التجار يعرضون عليه أن يبيعهم تلك القافلة فيقول كم تعطوني ربحاً قالوا خمسة في المئة، قال إني وجدت من يعطيني أكثر، فما زالوا يزيدونه حتى أعطوه عشرة في المئة، فقال لهم: لقد وجدت من يعطيني أكثر لقد وجدت من يعطيني على الدرهم سبعمائة فأكثر، إني وجدت الله يقول:
﴿مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم﴾[البقرة:261] ويقول عثمان رضي الله عنه: أشهدكم أني بعتها لله وأنها صدقة للمسلمين. هذا مثل الأغنياء.
واشتغل عاملٌ الليل كله لجماعة يسقي لهم أرضهم بالماء حتى إذا انتهى في الصباح قبض أجرته صاعين من الشعير فجاء بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال صاع أمسكه لأهلي وصاع أضعه بين يديك لتعطيه إلى إخواني المحتاجين. وبينما كان سيدنا عليٌ رضي الله عنه مع زوجته السيدة فاطمة يأكلان ما لا يكاد يكفيهما جاءه سائل فأعطياه ما يأكلان، وظلاّ طاويين من الجوع حتى نزل فيهما قول الله تبارك وتعالى:﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾[الحشر:9]، وهذا مثل الفقراء.
وتتصدّق السيدة عائشة رضي الله عنها بمائة ألف درهم من عطاءﹴ لها وهي صائمة ولا تلبس إلاّ ثوباً بالياً فقالت لها خادمتها: لو أبقيت لنا ما نفطر عليه لكان خيراً، فقالت عائشة وقد نسيت نفسها: لو ذكَرتني لفعلت. وعن جابر بن عبد الله قال:"شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله وحثّ على طاعته ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهنّ وذكّرهنّ فقال: تصدقّن فإنّ أكثركنّ حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدَين فقالت: لم يا رسول الله؟ قال:"لأنكنّ تكثرن الشَكاة وتكفرن العشير"، قال: فجعلن يتصدَقن من حليّهنّ يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن" وهذا مثل النساء.
بهذا الكرم الاجتماعي وهذه الأخلاق شيّدت المساجد في صدر الإسلام وأنشئت المدارس وكثرت الأوقاف وبنيت الخانات ليأوي إليها أبناء السبيل، وبهذا انفرد تاريخنا الذي لا نعرف له مثيلاً في تاريخ الأمم حيث يجد كل مسلم باباً للإنفاق والصدقة كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"على كل مسلم صدقة"، فقالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال:"يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق"، قالوا: فإن لم يجد؟ قال:"يعين ذا الحاجة الملهوف" قالوا: فإن لم يجد؟ قال:"فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة" أخرجه البخاري.
ورمضان المبارك فرصة سانحة لكثرة الإنفاق لأنه شهر الخير وموسم الكرم والسخاء، ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه أجود الناس، ولأن الأجور فيه تتضاعف وتتكاثر. فاللهم يسِر لنا الإنفاق في سبيلك ابتغاء مرضاتك اللهم آمين.
بقلم: طالبة علم
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن